Tuesday, December 13, 2011

إقرار حالة

أعيش عوالم تتداخل مع بعضها بشكل يفقدني القدرة على التركيز في أيّ منهم. مثلا، بالأمس في محاضرة التاسعة صباحا. كنتُ أعيش عالم المحاضرة الممل، أشعر بالطلبة الجالسين حولي، أرى الدكتورة الإسبانية وأسمعها تتحدث وأرد عليها. في نفس الوقت، كنت ما زلتُ أعيش حالة الموسيقى التي كنتُ أستمع إليها قبل المحاضرة؛ لا زلت أفكّر في الجارية التي اشتراها السلطان، وداب قلبه المخدوع في عينيها، وضيّع ملكه وعمره عليها، أعيش عالمها، وأتخيّل ألوان حياتهما، وأدندن اللحن في طبقة من طبقات مخي. الزكام والصداع ورغبتي في سيجارة وفنجان قهوة شكلّوا عالم آخر. في حين أن الطبقة الأهم من طبقات مخي كانت تفكّر في الولد الذي سافر، وتعيد ترتيب الأمر للمرّة الألف. أفكّر في الميكروباص، أفكّر في من سألتقي بهم بعد المحاضرات، في الثورة، في الكتابة، وفي الحب.

الآن، أجلس على الكرسي أمام الكمبيوتر، أشعر بالبرد وبالرغبة في سيجارة، أشعر أنني منفصلة تماما عن كل شيء. الأمر تطوّر من الأمس إلى اليوم، التشتت ذهب لصالح اللا شيء. أنا لا أفكر في شيء الآن. لا أحمل هموما، ولا أريد أن أفعل. ذهني الخالي من العوالم المتداخلة المشتِتة يترك براحا لإدراكات أبسط وأهدأ. مثلا: أنا أحب أصدقائي. مثلا: أنا أحب الولد الذي سافر السعودية. ومثلا: أنا لن أهتم بأشياء كثيرة كنت أهتم بها من قبل. عموما: أنا هادئة وأكثر قدرة على الاستيعاب. رغم أن العوالم تتداخل دائما، ورغم أن الولد في السعودية، وأن أمّي تتشاجر معي لأنني لا أصلي. الحياة حلوة هذه الأيام، وأعتقد أنّها ستستمر هكذا لفترة.

Saturday, November 26, 2011

رويدا رويدا .. وعلى مهل

الحُب يؤلم. أعلم صلادتي وقسوتي، ولذلك آلمني الحُب بشدّة. الحُب الذي أتبادله مع أصدقائي جديد عليّ. أذهب إليهم في الميدان، أرقب حركاتهم، ونظرات أعينهم، وجوههم المستيقظة لتوّها، حميميتهم الدافئة، صدق مشاعرهم ونبلها، ونظافة قلوبهم- وأقول لنفسي: أنا أحبهم فعلا، ثم تدمع عيني تأثرا في طريق العودة إلى البيت، وأمنع نفسي من احتضانهم قبل الذهاب.
ألاحظُ النغزة الصغيرة في قلبي، وأقول: الحُبّ يؤلم يا سمية. سريان الحُب في قلبك القاسي يشبه مرور الدم إلى قدمك التي تستندين عليها في جلستك وسط صينية الميدان، ويؤلمك سريانه عند قيامك. الروح التي تعود إلى الجسد الميّت تؤلمه وهي تحييه.

تبدو لي كل الأحداث وكأنّها تدور في خلفية المشهد الكبير الذي يضم الميدان بقهاوي وسط البلد. أصدقائي أبطال المشهد الرئيسيين، وأنا عين الكاميرا؛ لا أراني، ولكنّي أعرف أنّي هنا. تبدو أشياء مثل الكلية، البيت، الفيس بوك، علاقتي الماضية المؤلمة، الله، العائلة، الكتابة- تبدو كلّها أشياء بعيدة جدّا. لا أتعرف عليّ إلا معهم. تكتسب كل الأحداث بعيدا عنهم موقوتية؛ هناك الميدان، وهناك أصدقائي، وهم يكفون.

الحُبّ يؤلم يا سُميّة. وروحك التي تختبر الحب بصعوبة، تشعر بالأسى كلما اكتشفت تعلقها بمن تحبهم. وعقدة الاضطهاد لديكِ تدفع إليك دائما بالسؤال الأكثر درامية: هل يحبونك بالمثل؟ وسوداويتك المفتعلة تُهدى إليك دائما سؤالها الأكثر تميزّا: متى السقطة؟ .. ولكنّ الحُب داخلك يُزيح برفق -يعلم أهميته جيدّا- الظلام، ويفتح لك براحًا أكبر للتنفس والرؤية. أستلذّ الإحساس، آخذه على مهل، وأقول لنفسي: رويدا رويدا يا حلوة. على مهل، وأربت عليّ تربيتة مبتسمة.

عاطفيتي التي أعترف بها عقب كل تصريح بالحب خشية المبالغة والدرامية وتحسبا لأي ساخر منها قد يجعلني أنكمش داخلي للأبد، تُكسب كل التفاصيل عمقا وحسّا وتفردا. وتحوّل كل لحظة بسيطة وكل تفصيلة صغيرة إلى شيء جدير بالتأمل، والتوقف عنده طويلا.
أفتقد الكتابة كثيرا، وذهني المشحون دائما بالتأملات الصغيرة يشوّش عليّ. الأفكار تتصارع في الداخل من أجل الخروج. تمزّق فيّ أحيانا، لأن النار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله، وتمنعني من الاستغراق التام في اللحظة. لكنّي أعود وأقول: رويدا رويدا يا سميّة. أدع الموسيقى الهادئة تنساب في رفق، وأروّض الأفكار. وأطمئن نفسي: لا بأس .. سيكون كل شيء أفضل.


وفي شارع طلعت حرب، الذي أسيره من آخره لأولّه عند التحرير لألتقي أصدقائي، أفكّر في ثِقَل اللحظات الدرامي، وأكتب ألف جملة في رأسي، ثم أصل لمكان تجمعنا، فيبتسم في وجهي أصدقائي المستيقظون لتوّهم، فأبتسم، وأنسى كل شيئ عاداهم. وأسألهم: "مش عايزين تشربوا قهوة؟" .. وأقول لنفسي اليوم في طريق العودة: سميّة، أنتِ تتغيرين. خوضي التجربة الحسيّة لآخرها ولا تخافي. رويدا رويدا وعلى مهل .. القادم سيحمل لك الوقت للتأمل، والكتابة، واسترجاع كل هذه المشاعر. القادم سيكون أعمق وأجمل. أما الآن، فسأكتفي بما يحدث.

Wednesday, November 9, 2011

أريد لهذه القصيدة أن تنتهي

أريد أن أكف للحظة واحدة عن تفسير كل شيء فقط بهدف: أن أثبت أنني لا شيء.
أريد للحظة واحدة فقط أن أفرد ظهري وأرفع رأسي، دون أن أتلفت حولي خشية أن يطيّر أحدهم رقبتي بضربة سيف مفاجئة.
أريد ألا أتوجس وأنغلق على ذاتي مع كل محاولة من أحد لمساعدتي .
أريد ألا أكره حب الآخرين لي.
أريد ألا أكره ابتعاد الآخرين عنّي.
أريد أن أتخلص من احساسي بالذنب نحو من لا أحمل ذنبهم.
أريد أن أشعر بالمسؤولية نحو المسؤولين منّي.
أريد أن تكف حشرات مخي عن الطنين، لثانية واحدة فقط أستطيع أن أسمع فيها الأصوات كما هي.
أريد أن تكف مخالب روحي عن نهشها، لثانية واحدة أستطيع أن أنظر فيها إلى قلبي فأراه بوضوح.
أريد أن آخذ نفسي بهدوء ودون تسارع ومجاهدة من رئتي لأخذه قبل فوات الأوان.
أريد أن يكون زفيري عملية ميكانيكية وليس تنهدّا.
أريد أن أشم هواء نقيّا وباستمتاع، دون تخوفات.
أريد أن أهدأ. أريد أن أهدأ. أريد أن أهدأ.

وأُريدُ أن أحيا ...


---------
العنوان والجملة الأخيرة مأخوذان عن درويش.


Saturday, November 5, 2011

فقرة مقتطفة: في وصفها

وتخشى أنّ تكون امرأة الوسط الجميلة، متوسطة الموهبة، التي يحبها الجميع ولا تقدم جديدا. وتعاني في نفس الوقت من الوحدة الذاتية، ومن الوحدة الجماعية. وتُعاني من البارانويا التي تجعلها ترى نفسها دائما كشخص غير مرغوب في وجوده، أو على أفضل الفروض كشخص يتعامل معه الجميع بقداسة تفتقد الحميمية، أو بتجنّب يفتقد الحب. تحاذر دائما أن تفتعل شيئا، وتبكي في أعقاب اللقاءات التي تتحدث فيها كثيرا. تشعر بالهشاشة كلما تصرفت بقوّة. لديها مشكلة كبيرة مع نفسها، شكلا وموضوعا، وتجعلها نظرتها القاسية لنفسها في موضع شك واضطراب دائم. هي ليست هذه المتصالحة مع ذاتها التي يظنون، وليست هذه الجميلة التي يرون. على العكس، هي التي تعذّب نفسها بقسوة حتّى تتفسّخ، وترى في صورتها القبح في صورته الفجّة. إنّها متقلبة المزاج، متطرفة الأهواء، حادّة الطباع، غير مأمونة الجانب، المشرقة الضاحكة، التي تنشر بهجة بمقدار البرتقالي في عينها. إنّها التي تتحرّك بأداء الواثق في نفسه ثقة لا تُضاهى، ووهو يحاربها في داخلها بغية قتلها. إنّها التي تمشي وحيدة، وتخشى أن تموت وحيدة، وتعرف الجميع، ولا تعرف أحدا.

Wednesday, November 2, 2011

أجازة قصيرة

هناك شرطان يجب تحقيقهما لكي أستطيع أخذ أجازة بسيطة من نفسي وأفكاري وروحي ومشاكلي الوجودية. الأول: أن أنشغل طوال الوقت حتّى لا أفيق فجأة فأجد نفسي وحيدة ونُعيد نفس القصّة. الشرط الثاني: أن أتجنب المحفزات على السقوط داخلي مرّة أخرى. وأنا أبذل قصارى جهدي لأحقق الشرطين.

أُؤجل المقابلات العميقة والتي تتطلب جهدا نفسيا عميقا. أتوقف عن سماع "والله تستاهل يا قلبي" و"أنا هويته وانتهيت" و"ما دام تحب بتنكر ليه"، وأبدأ في سماع سيّد مكاوي وكارم محمود. وأعيش كالشخص الذي لا توجد لديه أي مشاكل، وكل مشكلته في الحياة أنّه يريد أن ينام قليلا فيما لديه محاضرة في الثامنة صباحا. لا ألتقي الناس الذين أعرف جيدا أن لقاءهم سيحيلني لنفسي من جديد. وإذا التقيت أصدقائي المقربين، أحرص أن يسير الكلام في منحنى عبثي تماما يبتعد كل البعد عن الجديّة الحرجة. أضحك كثيرا جدّا -بدون افتعال بالمناسبة- وأسخر من كل الأشياء، أؤدي واجب الكليّة في وقته، وأرقص على "من بحري وبنحبوه"، وأدفع بعيدا أي فكرة عميقة. أخرج كل الكتب من الغرفة، وأقرأ كتابا لا يقول أي شيء.  أقلل من الفيس بوك والتمبلر وتويتر، وأتوقف عن تصفح ايميلي وعن مراقبة عداد زوّار المدونة. أشرب ينسونا، وخمس سيجارات، عوضا عن القهوة وعلبة السجائر الكاملة. وأستقبل الجامعة بـ "الليلة الكبيرة"، بدلا من الأغاني الثقيلة. وبشكل عام، لا أفكّر في أحلامي المضطربة، ولا أشغل بالي بحالتي النفسية السيئة. أقول لنفسي: "فاكس"، وأنصرف إلى شأن آخر.


احتياجي لأجازة نابع من إيمان قوي أن هناك سقطة قوية قادمة. ووغلاوة الإسباني عندي، هذا ليس تشاؤما على الإطلاق. ولكنّي أعرف أن هناك الكثير من الأمور العالقة، هناك أسئلة تحتاج إلى جلسات علاج ذاتي طويلة، وحدث لي الكثير الذي لم أعذب نفسي بالتفكير فيه بعد. الكثير من الهزائم والخسارات، الكثير من الإدراكات المقلقة والمؤلمة، علاقات جديدة، وعلاقات تتجدد، وعلاقات تتنتهي. أنا لم أستوعب كل هذا. وأحتاج، فعلا، قبل السقوط في دوامة جديدة أن أعطي نفسي أجازة قصيرة، أستريح قليلا من عناء الدوامات السابقة، وأدخل إلى قلب الدوامة الجديدة بروح رياضية.

لذلك، أنا في أجازة نفسية حتّى أوّل أيّام العيد. "هتنطط" هذه الأيّام ما قُدّر لي من التنطيط، وأنجز كل ما يمكن انجازه من أشياء عديمة المعنى. كنت أتمنى لو أستطيع إطالة الأجازة عن هذا، ولكن العيد هو المكافيء الموضوعي للوحدة والاغتراب، وبالتالي يتطلّب سقوطا داخل الذات. ولكن عملا بنصيحة جدتّي: "الطمع، يقل ما جمع"، سأكتفي بهذه الأجازة، ونراكم على خير.


عيد سعيد :)

Wednesday, October 26, 2011

ما يكفي من الكراهية

سنعقد اتفاقا؛ إذ لابد لهذا أن ينتهي. سنلتقي أنا وأنت، في صباح يوم عاديّ. نختار بقعة بعيدة على كورنيش النيل. سنجلس على السور، متقابلين، ينظر كل منّا في وجه الآخر لمدّة لا تقل عن نصف ساعة، ندير بعدها وجهنا نحو الماء. نخرج ورقة وقلما ونكتب عشرة أسباب تدفع كل منّا لقتل الآخر والطريقة التي سيقتله بها، بشرط وحيد: أن يوافق الآخر على طريقة القتل. بعدها، سأعطيك أغانيك، التي لا أسمع سواها، سأعطيك طريقتك في الحياة، التي تلبستني، وسأعطيك رائحة جسدك، التي لا تتوقف عن مهاجمتي. وأنت في المقابل، ستعطيني برودي ولا مبالاتي بأي شيء.

سأشرح لك أهمية هذا. عندما أفكّر جيدا كيف أقتلك، سأقتلك فعلا داخلي. آمل هذا. ولا مانع لديّ على الإطلاق أن تحاول تنفيذ خطتك في قتلي. أن تدفعني بقوة فأسقط في النيل وأغرق، أن تخنقني بيديك، أو تطعنّي بمطواة في صدري. لن أستنكر، ولن أراك عنيفا. ربما أصبح وقتها قادرة على كراهيتك بما يكفي لأتعامل معك ببساطة. ستجعلنا الكراهية قادرين على التفاعل، تعبتُ من التجاهل. إن كانت محبتنا انقطعت، لنحولّها إلى أي نوع آخر من المشاعر. آملُ أن نصل للمرحلة التي يكون وجودك فيها معي في نفس المكان أمر عاديّ، أو على الأقل ليس مربكا. أن يكف ذكر اسمك عن إصابتي بالتوتر، أن تكف ذكرياتنا عن تذكيري بك دائما. سأفصل بينكما. سيصبح الذي أحببته -وهذه حقيقة للأسف- في ركن بعيد في قلبي موضوعا بحرص مع باقي آلامي، فيما ستصبح أنت شخص آخر أتفاعل معه بطريقة أخرى لا يهم كونها إيجابية بقدر ما يهم كونها مغايرة. سأتوقف عن تصفح صفحتك كل خمس دقائق، سأسمع أغانيك بهدوء محايد، وسأفكر فيما تكتبه بشكل أدبي. لن أبكي مع كل سطر تكتبه عنّي، لأنني أراني عندك من جديد، وكل سطر لا تكتبه عنّي، لأني أخشى أن تكون نسيتني بهذه السرعة. سأتوقف عن الكتابة عنك وإليك. وسأكتب قصصي التي أراكمها باستمرار، فيما أواظب على الكتابة عنك يوميا، كتابة لا تفيدني أنا نفسي.

ربما إن عددنا أسباب الكراهية، نكتشف عدم وجودها فنعود. ربما نكتشف عمقها فتتجسد. الأهم، أن نتخلص من التجاهل، وننتقل بعلاقتنا، المتطورة بسرعة منذ البداية، إلى مرحلة أخرى. المرحلة الحالية تصيبني باحباط قد يسعدك، ولكنّه يقتلني ببطء، وأنا لا أوافق على قتلي بهذه الطريقة.

Saturday, October 22, 2011

هو انت تقدر .. تقدر تسلاني؟

قضيتُ اليوم نائمة تماما. أصحو قليلا، أتذكّر أحلامي ثم أعاود النوم. تداخلت الأحلام بما حدث فعلا بما كنت أفكّر فيه. واختلط الأمر عليّ تماما. لا أعرف الحقيقي من الوهمي.

ولكنّي أتذكّر حلما واحدا واضحا: كنت أنظر في ناحية بعيدة عنك، ولكنّي كنتُ أعرف أنّك تمسك يدي. كنت سعيدة ومرتبكة. وكنت أحرك يدي طوال الوقت لأستشعر ملمس يديك، وكانت سعادة فوق الوصف تنتابني عندما تحرك يدك وتضغط على يدي. تحركتَ فجأة وابتعدتَ، ولكنّي كنت ما زلت أشعر بيديك، نظرتُ إلى يدي فوجدت أنني أمسك إحدى يديّ باليد الأخرى، وأنني كنت أقنع نفسي أنّك تمسك بها. ملأني الخزي، شعرت بمهانة لا حد لها. بكيتُ في الحلم بشدّة، وأنت تبتعد. واستيقظت من النوم أبكي. كانت أم كلثوم تتسائل للمرّة الألف منذ أمس: "هو انت تقدر .. تقدر تسلاني؟"

قال لي أحد أنّك تحب واحدة أخرى. ولا أدري حتّى هذه اللحظة إن كان هذا حلما أم واقعا أو توقعا. ولكنّي أحتفظ داخلي بحسد ونقمة ينهشان داخلي الممزق أيا كان. وكرهتُ هذه البنت للأبد. حتّى لو كان الأمر مجرّد حلم ووهم في رأسي، سأظل أكرهها. يكفيني تآكلي النفسي ليجعلني أكرهها تماما.

فتحتُ صفحتك ألف مرّة، أبحث عنّي. ولم أجدني. عدتُ للوراء، أبحث عنّي عندما كنتُ موجودة، فبكيتُ. وغنيت مع أم كلثوم :"كنت أشتكيلك .. تواسيني". قرأتُ نصا كتبته عنّك آلافا من المرّات. استعدتُ تعبيرات وجهك وملمس يدك آلافا أخرى من المرّات. وبكيتُ بكيتُ. سألتُ نفسي: "لم فعلتُ هذا؟" ولم أجد إجابة. كرهتُك، وكرهتُ نفسي. ثم بكيتُ مرّة أخرى وفتحت صفحتك أبحث عنّي، لعلّك تكون كتبت شيئا جديدا في الخمس دقائق الذين كرهتك فيهم. لم أجد. فبكيت وأعدت المقطع مرّة أخرى :"هو انت تقدر .. تقدر تسلاني؟"

لا أكتبُ لأكفّر عن ذنب. لا أكتب لأُعلمك. أكتب لأنني لا أستطيع تحمّل كل هذا وحدي لهذه الدرجة. أكتب لأن الكتابة هي الشريك الوحيد، هي التي تستوعب كم انفعالاتي ونزقي. أكتب لأنني خائفة ووحيدة وضعيفة وهشّة. أخشى أن يعجز جسدي وروحي عن تحمل كل هذا، فينوءا بالحمل ويسقطا. أنا أخشى الموت. أخشى أن أموت وحدي، أخشى أنني عندما أكون على وشك الرحيل، لن أجد بجانبي سوى بشر يحبونّي، ولن أجد أحدا أحبه. سأموت وحيدة وغريبة. لا، لن أموت الآن. سأكتبُ.

أحملُ الكثير. همومي ستقتلني. وتعبتُ من العالم. تعبتُ من العالم جدّا. تعبتُ من فكرة "الوجود" ذاتها بشدّة. هذه انتكاسة. يبدو أنني أعود لمرحلة تركتُها من فترة. أو ظننتُ أنني تركتُها. نكوص. سأعود للهذيان، سأعود إلى الأحلام المرتبكة، للبكاء، وللأسئلة الوجودية، للخوف، ولكراهية قواعد اللعبة المفروضة.

واكتشفتُ في أحد استيقاظاتي أن البارانويا، الدموع القريبة، الحفرة التي أشعر بها تنمو في الداخل، عدم التفاعل، والرغبة في الانزواء- هذه كلّها ليست سوى أعراض لمرض غامض.

يمكن اجمال الأعراض في كلمة واحدة: الهشاشة. هشاشة نفسية تعذبني. استندتُ على قشرة جليدية هشّة لبحيرة، وتخيّلتُ أنّها قادرة على حمايتي. وأفقتُ فوجدتُ أن القشرة لم تحتملني، فتفتت. انهارت القشرة الضعيفة وتركتني أسقُط. أنا الآن أستقبل الماء البارد الذي هو على وشك التجمّد. أشعر بالبرد والخوف والظلام. أنا وحدي.

هذه ليست أعراض انسحاب الحب، ليست أعراض قساوة العالم، ولا حتّى أعراض الضغط العصبي. هذه أعراض لمرض أجهل اسمه، وأعرف أعراضه جيدّا. وأعرف أنّ تدهور حالتي بدون علاج يأخذني من يدي إلى اكتئاب حاد تأخر ظهوره كثيرا.

أنا خائفة جدّا، ووحيدة جدّا. لا أطيق وجودي، وأخشى الموت. وهذا كلام مكرر جدّا، وهذه خطورته.

Friday, October 21, 2011

لحظة شفافة أخيرة

كنتَ شفافًا جدّا، وجميلا. أرى قلبك واضحًا. ينتفض من دقة وأخرى. أرى نبض الألم يسري من ركن لآخر. وأرى روحك تُلاحقك لتمسكه، تحاول منعه من تمزيقك بالكامل. كنتُ أفكّر أنني لو مددتُ يدي الآن، في هذه اللحظة تحديدا، سأوقف الألم. سأمسك قلبك جيدّا برفق حاني،  أمنع انتفاضاته. وربما أستطيع ايقاف النزيف. الكرسيّ الذي يتمايل إثر الموج، جعل الألم مضطربا، موجعا أكثر. وددتُ لو أتشبث بك، لو آخذ قلبك وأضعه في قلبي. لو أنقل لك طاقة حياة وحب، امتلكتُها في هذه اللحظة فقط. أردتُ أن أنفخ في العكار الذي ملأتُ به قلبَك، أزيحُه تدريجيا ليسقط عن حوافّ قلبك المستديرة الدافئة. وددتُ لو كنتُ أقرب، وودتُ لو كنتَ أقرب. لم يكفني التصاق روحي بروحك، لم يكفني تطفلي على قلبك وعلى عينيك، وددتُ لو ألتصق بك، لتسكرني رائحتُك كما تفعلَ دائما. أردتُ لو أستعين بألم قلبك لأزيل صلادة قلبي. لو أمكنني أن أنحّي القسوة بعيدا، أن أتخلى عن الغربة والوحدة. أن أحمل قلبك، بأوجاعه، داخلي. أضعه بجانب قلبي، ليأتنسا. لنتفرّغ نحنُ لحياتنا، دون أن نحمل عبء القلب على أكتافنا. لو ننحي قطيعتنا، للحظة واحدة أقبلّك فيها، أبتلعَ ريقك كما كنتُ أفعل، نمزّق الصمتَ الذي طال. للحظة واحدة. فقط لهذه اللحظة. لو أمكننا أن ننظر طويلا في أعين بعضنا، لو تدعني أنظر في عينك، لو يدعنا الموج. لو يدعنا. لو تدعني. لو ترحمني القسوة. لو تتركني الصلادة. لو أحتضنك. لو مارستُ الحب معك لمرّة واحدة أخيرة. لو أستسلم لايقاع الأغنية، وأرقص. لو تحتضنّي. لو مارستَ الحب معي لمرّة واحدة أخيرة. لو رقصتَ معي. لو نتلامس. لو نعود لصورتنا الأولى. لو يأخذنا سحر القديس. أو لو أدع قلبي لك. لتزيل عكارته. لو ندخن سيجارة واحدة أخيرة معا. منعني الموج، ومنعني الخوف. منعني الشكّ والضعف وقلّة حيلتي في قلبي. منعني عدم يقيني في قدرتي. منعني العكارُ داخلي، والعكار داخلك الذي أوقن بمسؤوليتي عنه. منعني البعد. ومنعتني الصلادة. اكتفيتُ بتربيتتي على كتفك، الجزء الأصلب فيك، اكتفيت برأسك على كتفيّ، الجزء الأصلب في، واكتفيتُ بلحظة الصمتِ التي طالت، فزودّت العكار والصلادة. اكتفيتُ باللحظة، وأخذتُ نُسخة من ألمك، ووضعتُها بجانب ألمي، ليأتنسا.

Wednesday, October 19, 2011

مزاج صباحيّ

لستُ حزينة ولا سعيدة ولا مرتبكة ولا مكتئبة ولا مستمتعة ولا زاهدة ولا متفائلة ولا متشائمة ولا متفاعلة ولا منطوية ولا حادّة ولا مُرحبّة ولا متمردّة ولا مستسلمة ولا مفكرّة ولا مستهلَكة ولا واثقة ولا متشككة ولا مبدعة ولا مكررة.

أنا فقط أخشى التواصل، وأفضّل الانزواء.

Saturday, October 8, 2011

تماما كما أردتُ

يحاصرني كل ما كنّا ننتظر حدوثه، وكل ما حدث بالفعل.
أقول لنفسي أن الأمر انتهى تماما كما أردتُ، وأتصنع عدم الاهتمام.
ثم أعود لأراقبك من بعيد؛ أتشمم أخبارك، وأتحسر على لحظات ضائعة، كنت أتمنى أن أشاركك فيها.
أحاول الهرب من الأماكن التي طبعناها بلقاءاتنا، والأماكن التي تحمل رائحتنا مسبقًا، وأحاول الهرب من رائحة جسدك التّي أصحو في الليل على هجومها.
وأكتشف أن المساحة التي خصصتها لك بداخلي، لم يأخذها أحد قبلك، ويبدو أنّك عرفت كيف تشغلها.
وأعترف لنفسي، أنني لم أقدر حجم وجودك داخلي بدقّة، وأنني سأواجه الآن غربة الحياة بعيدا عنّك.
يقلقني ألمك .. عزاؤك وعزائي أنني أتألم كما لم أفعل من قبل.

Wednesday, September 28, 2011

غريبة الأطوار

اليوم فعلت ثلاثة أشياء. التقيتُ صديقة مقربّة. حضرت تجمّعا أدبيا. جلست عند عم صالح قليلا.

صديقتي قالت إن تصرفاتي تبدو غير مفهومة أحيانا. على هامش اللقاء الأدبي قال لي شخص إنني عدوانية وسوداء. عند صالح قال لي صديقي إنني غريبة الأطوار.وعندما سمعت اليوم قصيدة فيها حديث عن النسيان الدائم، كدت أبكي.

عندما التقيت بصديقتاي على التكعيبة مؤخرا، قال لي القهوجي: "احنا عايزين نصورك بفيديو دلوقتي .. ما انتِ بتضحكي آهه"، وقال لصديقتاي: "ما تسيبوهاش تقعد لوحدها بقى لحسن بتبقى مكشرة أوي".

 وأنا في طريق العودة، كنتُ أقاوم رغبة شديدة في التقيؤ. وتذكرت كلام الأربعة، واشتد عليّ الصداع. وكنت أقاوم رغبة أخرى في إلقاء شنطتي من النافذة، وتقطيع الكتاب الجديد الثقيل وتطيير ورقه، وقذف رأس السائق بالموبايل ليتحطم الاثنان تماما. وكنت أريد أن أخلع طرحتي، وحذائي، وأن أتعرف إلى الولد الذي يجلس في الكنبة الأمامية لأن صوته كان دافئا. وتذكرت صديقي الذي التقيته أمس وكنت أريده أن يحتضني قليلا وخجلت أن أطلب منه. وقلت سأتصل به وأخبره برغبتي.
لم أفعل شيئا، فقط قلت لأمي في التليفون أن أمامي عشر دقائق للوصول للبيت، في حين أن كان أمامي بالفعل أكثر من نصف ساعة. وانهمكت في التفكير في قصّة جديدة.

عندما عدت إلى البيت، حاولت كتابة القصّة، ولكنني وجدت أنني محاصرة بالأفكار القديمة التي لم أكتبها بعد. ثم أخذت أعيد قراءة النصوص القديمة، والنصوص غير المكتملة ولا أضيف حرفا. هذا بالإضافة لكوني أشك أن أبي صادق الرجل الذي يشاهدني وأنا أدخن سيجارتي بعد أن يناموا في البلكونة، و أشك أيضا أن أخي رآني وأنا أدخن، وبالإضافة كذلك لأن إذاعة الأغاني تُذيع أغاني سخيفة في هذا الوقت من الليل. ولأن خدمة الانترنت تنقطع أكثر مما تتصل، ولأن الدراسة ستبدأ يوم السبت في الجامعة ، وأنا حتّى الآن لم أستوعب تماما فكرة السنة الدراسية الجديدة، لأنني لن أعرف من سأكون خلالها- فالأمر مرهق فعلا وممل.

عموما، وعلى أي حال، يمكنني أن أغير لون المونيكير، وأن أصنع كوبا آخر من النسكافيه، ويمكنني أن أدخن سيجارة كذلك. وعموما أيضا، أنا اكتشفت الآن، أن تصرفاتي غير مفهومة فعلا، وأنني عدوانية وسوداء، وأنني لا أبتسم إطلاقا وأنا وحدي، وأنني بالتالي غريبة الأطوار. واكتشفت أيضا أن هذا لا يُزعجني إطلاقا.

وعلى شرف هذا الاكتشاف العظيم، سأحتفل وأشرب كوبا من عصير البرتقال مائع الطعم الموجود في الثلاجة، وأشرب سيجارتين بدلا من سيجارة واحدة، ثم أعود لأسمع شريط عمرو دياب الجديد الذي لا يعجبني.

Saturday, September 17, 2011

الآنسة: لا أحد

لا أتوقف عن التقمص. أحيانا تتلبسني أرواح لا أعرف أصحابها. أحيانا شياطين، أحيانا ملائكة. المُلاحظ وبشدّة أنني لا أعرف أيا منهم معرفة وطيدة.

 منذ يومين، دخنتُ سيجارتي بالطريقة التي تدخنها بها تشارليت في فيلم Lost in Translation. واليوم فكرّت بطريقة إرين في Next Stop Wonderland. تعيش معي طويلا شخصيات وودي آلن، في حين أتكلم كثيرا بطريقة كاثرين كيلي في Stranger than Fiction. تتلبسني ساحرة قوطية، مديرة تسويق أمريكية، مخرج فرنسي، مزارع اسكتلندي، راقصة أرجنتينية، وباحث تراث إسباني، وكثيرون غيرهم. لدرجة أنني أفكر في تسميتهم بأسماء أعرف بها وجودهم.

المؤمنون بتناسخ الأرواح يعتقدون أن بموت الكائن الحي، تنتقل روحه لكائن آخر. لستُ متأكدة من وجود تمارين روحية تزيد من قدرتنا على اتصال ما، يجعلنا قادرين على معرفة الكائنات التي سكنتها أرواحنا قبل أن تسكنّا. عموما، يبدو أن خللا ما حدث في منظومة التناسخ الخاصّة بي، جعل أكثر من روح تأتي إليّ، في حين أخطأتني الروح الأصلية، التي لابد وأنّها تعذب مسكينا آخر في مكان ما، أو تائهة إلى الآن بلا جسد.

أتذكر جملة لصديقة عزيزة في يوم مشمس، وفي حديقة هادئة، وجلسة تجليّات. قالت:"بحس إن روحي محبوسة في جسم مش بتاعها". وأنا نظرتُ لها ولم أعلّق، وبكيتُ. مرّ على هذه الجلسة شهور طويلة، كانت حالتي النفسية سيئة، كنت ممزقة بين الاختيارات، وأفكر في عواقب كل اختيار، كنتُ أشعر بنفسي محبوسة ومقيدّة في علاقة لا أريدها، وكنت أظن أن انتهاء العلاقة سيحررني. حسنا، لقد انتهى كلُّ هذا الآن. وتحررتُ. تحررت للدرجة التي فتحت لي كل الآفاق مرّة واحدة. تعددت الاختيارات، ولكنّها أصبحت مائعة وقاصمة في ذات الوقت. إذ لا يهمني أي منها مع أن كل اختيار منها يستطيع أن يقلب الكفّة في لحظة. ولعبقريتي الفذة في التعامل مع أزماتي، زادت حالتي النفسية سوء. وذهبت صديقتي، ولم أرها بعدها إلا من أيام قليلة. كانت الجلسة مختلفة. صاخبة، على قهوة في وسط البلد، ولم تكن جلسة تجليّات، كانت استشارات ومحادثات قصيرة مبتورة لضيق المكان وضغط الصحبة. قالت:"أنا دلوقتي حاسّة إن أنا أنا". وفكرّت بعدها أن الناس يجدون أنفسهم، ويصدقون، وأنني وحدي أبقى على الحافة ولا أصل للعمق. 

قلتُ لنفسي، ليكن. عموما، أنا مللتُ الكلام عن البحث عن الذات والغربة في الحياة والروح الحقيقية. لا أكذبه، ولكنّي مللته. وأخذتُ قرارا، قلتُ إن لم يكن من التلبس بدّا، فلأعشه لآخره. وقلتُ من الآن فصاعدا، سأختار الشخصيات التي تتلبسني، وأسمّيها، وأختار لكل يوم واحدة، أبدأ بها يومي وأودعها قبل النوم. ولنبدأ بالآنسة: ¨smiley face، التي تسكت طويلا، وتبتسم قليلا، وتهز رأسها وتراقب طوال الوقت.


Friday, September 16, 2011

يومض ثم يخبو

 "كانت كلاريسا عندئذ تشعر بأنها مقبلة على بداية حياة جديدة سعيدة، ولا تزال حتى الآن تشعر أحيانا بالصدمة حتى بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما عندما تدرك أن هذه اللحظة كانت هي السعادة ذاتها .... أما الآن فإنها تعرف أن هذه اللحظة كانت لحظة مرت وانتهت في الماضي، ولن تأتي لحظة غيرها بعد ذلك أبدا"*

أعلم أنني لن أجد إجابة لسؤالي الأزلي: "من أين جئت؟ وإلى أين سأذهب؟" .. سيظل سؤالا بلا إجابة. أعلم أن الحياة سخيفة وغير محتملة. ولكنّي اليوم، في صباح الجمعة، وقبل الصلاة، تجسّد في رأسي المشوّش إدراك جليًّ، تجسّد ناصعا مُريحا: لحظات كهذه هي التي تجعل الحياة تستمر، وتجعلنا قادرين على استكمالها على بشاعتها وعبثيتها.
كنتُ لم أنم ليلتها كعادتي في قلّة النوم، وكنتُ قد قضيت ليلة لطيفة أتحدث فيها مع أناس أتعرف عليهم، أحدثهم بالإسبانية التي ما زلتُ في طور تعلمها الإبتدائي، ويثنون على لغتي المتماسكة وذكائي الواضح، وأسمع أغنية واحدة أحببتها جدّا ولا أركز في كلماتها.
في الثامنة ونصف صباحا تقريبا حسمت أمري وقررت أن أنزل في تمشية صغيرة، أشتري الجرائد -العادة التي عدتُ لها مؤخرا بعد انقطاع طويل- أعود بعدها للبيت أنام قليلا وأصحو هادئة. بعد التاسعة بقليل كنت في الشارع. ركبت ميكروباصا يُخرجني حتّى شارع الهرم، غازلني سائقه مغازلة رقيقة وهو يسمع "راجعين .. نعشق وندوب ونعيش مع بعض حياتنا .. راجعين .. ما يفيدشي هروب من شوقنا ومن حكاياتنا"**. وأنا، المحظوظة دائما في أغاني الميكروباصات، اندمجتُ مع الأغنية وأخذت أدندنها. والسائق، الذي كان شابا وسيما وجذابا، دندن معي الأغنية بهدوء، مستغلّين، أنا وهو، كوني الراكب الوحيد. وشيعني بابتسامة متواطئة استقبلتُ بها شارع الهرم.
مشيتُ. عند العاشرة إلا ربع تقريبا، قررتُ الذهاب للتحرير. ركبت ميكروباصا آخر أوصلني هناك في العاشرة وعشر دقائق. جلستُ بجرائدي عند عم غزال الذي استقبلني استقبالا حافلا مقسما بكل الأيمان أنّه افتقدني كل هذه الفترة، وأنّه سأل عنّي والله. ولما كان حارس مول طلعت حرب عندما مررت من جانبه قد قال في بساطة: "نهارنا زي الفل والكعبة الشريفة"، فقد كنت أشعر أن نهارنا زي الفل فعلا. قرأتُ جرائدي وانتهزت جلوسي خلف الكراسي العالية ودخنت سيجارة بسرعة حتّى لا يراني عم غزال الذي قد يعنفني بشدّة لأنه يخاف على صحتنا -أنا وصديقتاي- وقد يخاصمني. ربتُّ على كتفه وأنا أدفع الحساب، وقد رفض بشدّة أخذ مليم واحد زيادة عن ثمن فنجان القهوة العظيم الذي يصنعه.
مشيتُ في شارع شامبليون، وإذ إنني تعلمتُ من تجربة الجمعة الماضية، لم أجلس عند "عم صالح" لإن ميكروفون المسجد الذي يعلو القهوة ويحاصرنا بصوت خطيبه الأجش الجاهل الأحمق قد يفسد عليّ لحظات يوم تتصاعد وتيرة عظمته بوضوح. انعطفتُ يسارا، وعلى التكعيبة شربتُ ينسونا، وحرقتُ سيجارتين، فيما كنتُ أقرأ "ترابها زعفران" وأتأمل أصابع قدمي في الصندل الجديد المفتوح. كنتُ أفكر أنني سأطلي أظافري بالأحمر، وأن الصندل الجديد جميل، وأن أصابع قدمي التي تتنفس من أسباب روقان هذه اللحظة.
مرّت فتاة ليل بوضوح، ولكنها كانت جميلة لدرجة لا تصدّق. شعرها الذي رفعته والتف حول وجهها المدوّر، وفستانها الأبيض المنقوش الذي حبكته حول خصرها وجسدها المكتنز قليلا في دلال، كونوا جميعا مشهدا من "ترابها زعفران". وهي التفتتْ إلي، وأنا كنت أريد أن أقول لها: "صباح الخير .. اليوم حلو، صح؟" ولكنّي خجلتُ فاكتفيتُ بلحظة التواصل الروحي بين أعيننا في لحظ خاطفة. قلتُ فيها أنني أراها جميلة، وأنني في هذه اللحظة تحديدا أحبها بشدّة.
عندما مرّ بائع الساندوتشات، بأرغفة الفينو الكثيرة المرصوصة والمغطاة بمفرش نايلون رقيق، بجانب البيض الأحمر المسلوق الساكن في وداعة مبهجة- كنت أعلم أنني الآن في زمن قديم، وأن هذه اللحظات في الحقيقة حدثت من عقود طويلة مضت، وأنني، التي كانت تغبط ادوار الخراط على معايشته لهذا الذي يحكي عنه- قد تلبستني الحالة. أنا أعرف كل هذا جيدّا. أنني كلهم جميعا. عم غزال وسائق الميكروباص وبائع السندوتشات وفتاة الليل. أنا كلكم. كنت أدرك أنني أراقب السيجارة من علبة سجائري هدية صديقي الحنون، كنت أراقب كل شيء تمنيته.
لم أطلب من البائع ساندوتشا، على رغبتي الشديدة. خشيتُ أن أكسر المشهد الصامت الذي أراقبه من داخله، فيلتفت المشهد لوجودي وينصرف. اكتفيت بمتعة التأمل وبقلبي الذي يخفق في رقّة نسيتها من سنين.

أعلم أن كل هذا سينتهي. أعلم أن كل هذه المشاعر الطيبة ستتلاشى بمجرّد رؤيتي لوجه أخي القبيح في البيت. أن أسئلتي الوجودية غير القابلة للإجابة ستعود لتلح وتلتهم البراح الذي  يتنفس داخلي الآن. ولكنّي أدرك الآن، والآن فقط، أن من أجل لحظات كهذه تُصبح الحياة محتملة. (كانت هي السعادة ذاتها) ولا شيء بعدها. ولكن الحياة ممكنة الاحتمال. والنظرة المرتبكة بصدق في عين عم غزال ستظل هناك، وخصيلات شعر البنت النافرة في عشوائية موحية ستظل تومض لي، وسأظل أحب فستانها الذي يوحي بالبساطة والصدق على ما يفترض أن يوحيه من ابتذال. أعي أنني أحب جسدي الآن، وأنني أحتمل العيش ببعض من هذه اللحظات. أدرك أن هناك الكثير لنفعله. أعلم أن الثورة والبلد ينحرفان لطريق مضبب وداكن، ولكنّي أعلم كذلك أن نظرة على الجموع الغفيرة، وهتافٌ وَسطها هو الذي سجعل لكل ما كان معنى بغض النظر عما سيكون. أعلم أنني لستُ فتاة الرضا التام. تمردي سيقودني دوما نحو المناطق الوعرة  المليئة بأشباح تنتظرني وتنغص عليّ سلامي النفسي. ولكنّي أشعر الآن بالامتنان لهذه اللحظات لأنها ستجعلني قادرة على مواجهة أشباحي ومصادقتهم. تمردّي نفسه هو الذي يدفع الحياة في عروق غريزتي للحياة، وهذه الغريزة هي التي ستجعلني دائما قادرة على الاستمرار. كنتُ راضية. راضية عن جسدي، عن أصابع قدمي، عن نفرتيتي المعلقة في سلسلة على صدري، وعن علبة سجائري هدية صديقي الذي  يُصر أنني شخص طيّب برغم كل شيء.

أدرك موقوتية اللحظة. أدرك الإدراك الذي يدفعني للجلوس على السور الحديدي أمام جروبي طلعت حرب لأمسك بهذه اللحظة قبل أن تنفلت مني. أفهم تماما أن الحياة قاسية، وليست طيبّة. أن هذه اللحظة التي أعيشها ليست بداية السعادة، إنّها السعادة نفسها. وأعرف أن كل ما أفعله في باقي لحظات حياتي هو البحث عن هذه اللحظات التي على ندرتها حد الوحشة، تستحق المغامرة.

الشُكر، كل الشكر، لرأس نفرتيتي.
--------------
* الساعات - مايكل كاننجهام

Monday, September 12, 2011

أرتبك

البنت التي تكرهني تملأ عينيها بالغيرة وقلبها بالحقد وتحاول انتهاكي، في حين أن الولد الذي يحبني يملأ عينيه بالشوق وقلبه بالحب ويحاول احتضاني. وأنا أرتبك. أرتبك من ذروة المشاعر في الاتجاهين. ولا أعرف ما الذي يمكنني فعله في قلبي الذي يبهرني طوال الوقت بصلادته في الحالتين.


تقول صديقة أنّني لا أهتم بالبشر أصلا، وتسجّل أخرى إعجابها بقدرتي على فعل ما أريد بدون الاهتمام بما يقوله الآخرون، في حين يخبرني ولد لا أعرفه ويحاول أن يعرفني أنني مستفزة، ويشتكي آخر من صمتي وعدم تجاوبي معه في حديثه الذي لا يعنيني. تشتكي صديقة من أصدقائها الذين يقولون لها أنّها تغيرت بشأنهم، في نفس الوقت الذي يخبرني فيه صديق قديم أنّه لا يرى سميّة التي يعرفها وأنني أدعي كل ما أفعله. وأدرك صعوبة موقفي فعلا إذ أكتشف أنني لا أهتم أصلا .. ومن جديد، كل الذي أستطيع فعله هو أن أرتبك. جميل أن يكون لكل شخص يعرفني تصوّر ما، في حين أنني لست أيا من هذه التصورات. أنا، في الحقيقة، لا أعرف، وأنا، للأسف، لم أعد حتّى أهتم بالمعرفة.


بائع الحلي يبيعني الخاتم بأقل من سعره لأن عينيّ جميلتان، في حين يخبرني صديق أن جمالي خارج المألوف. وأنا؟ أرتبك طبعا. أنظر لصورتي الداخلية عن شكلي، وأقارنها بالصورة التي تصلني من الآخرين، وأرتبك. بافتراض أنني جميلة، كما يدعون، ما قيمة هذا فعلا إن كنت لا أراه، ويسبب لي مشاكل في نفس الوقت؟ إذا كانت ملامحي بارعة الجمال ولكنّي أراها لا تنتمي إلي، ماذا أفعل بانبهار الرجال بها؟


الأديب الذي أكرهه، يموت فجأة، فأشعر بذنب خفيّ. أمّي التي تلومني على التأخير والماكياج وتبكي من لا مبالاتي، أختي التي أشعر كلما احتضنتني بالذنب لأنني لن أستطيع الحفاظ على هذه العلاقة. الثورة تسير في اتجاه مرعب، وأنا لا أهتم بمصر كبلد بقدر ما سأشعر بالحسرة على كل ما كان يمكن أن يحدث ولم يحدث. وأفتح صفحة بيضاء وأحاول كتابة قصّة جديدة، وأجد  أنني لا أستطيع التركيز في شكل الحروف. وأقرأ صفحة واحدة في الكتاب وأقف عند "كنت أعرف أنني تركت غيط العنب وشارع راغب من زمن بعيد وأنني مع ذلك ما زلت هناك"*، وأداري سحابة كآبة موسمية حلّت فوق رأسي حتّى لا يراها صديقي الذي كنت في انتظاره. أرتبك أرتبك أرتبك.


الحياة بها ناس طيبون .. وناس صحبتهم دافئة .. وناس محفزون على الحياة .. وناس قادرون على التقبّل والتفهم .. وناس وناس وناس ..
لكنّي اكتشفت أن الحياة خارج حدود غرفتي، وخارج رأسي المكتظ عن آخره بتصورات سيئة عن العالم وعن الوجود الإنساني - مُرهقة جدّا. الكثير من التشوّش، الكثير من التخبّط، والكثير من الانعزال عمّا يحدث داخلي.


الحياة في الخارج مبهجة أحيانا، لكنّها في الداخل هادئة ومفهومة .. وفي الحالتين: مُربكة.
----------- 
* ترابها زعفران - ادوار الخراط

Wednesday, September 7, 2011

سلسلة مغلقة

هي السلسلة التي أعرفها جيدّا.
أدخل في حالة نفسية سيئة، أفقد الثقة في نفسي وفي قدرتي على إنجاز شي جيّد، أكتب نصوصا من القهر وبدافع التنفيس، تخرج نصوص جميلة، يشيد بها الجميع، أنظر لنفسي بصورة أفضل، أستعيد ثقتي في قدرتي على إنجاز الأشياء، أعترف لنفسي بالموهبة، فأكتب نصوصا مفتعلة، لا تعجب أحدا، فأدخل في حالة نفسية سيئة، وأفقد الثقة في نفسي، و .............. إلخ

المشكلة أنني أعرف هذا. وبالتالي صرت لا أصدق عدم ثقتي في نفسي، ولا أصدق ثقتي في نفسي .. لا أصدق من يتكلم عنّي بإيجابية، ولا أصدق من يتكلم بسلبية.

أنا بالأساس، لا أصدق شيئا على الإطلاق.

Monday, September 5, 2011

فتحة في جدار


لا تتذكر متى بدأ ذلك تحديدا. ربما عندما بدأ السأم يتسرب إلى قلبها كالعادة. ربما عندما شعرت أنّها قالت كل ما يمكن قوله وسمعت كل ما يمكن سماعه. لم يعد هناك جديد ليقال من جانبها أو من جانبه.
لم تطمح العلاقة من البداية إلى أكثر من كسر الملل. كان يُدرك، وكانت تُدرك، ولم يكن من داع للتصريح بهذا أو بعكسه. في مجتمعها الذي لا يوجد به غير النساء، كانت معرفتها به فرصة غير مضمون تكرارها للتغيير. تسألها أسوأ ما يحدث لفتاة فترد أن تعمل مع أمّها من منزلهم في خياطة ملابس النساء. كل ما تعرفه عن الرجال ما تسمعه من زبوناتها عنهم. تراهم في عيونهن، في اختياراتهن للتصميمات الأكثر إثارة، في غمزاتهن على الألوان، أو في حديث أمّها العابر عن أبيها الراحل.
كان "الرجل" في البداية فضول، تحوّل إلى احتياج تعلمّت أن تتعامل معه، ثم صار رغبة هدفها فقط كسر الملل. ظهوره كان فرصة مغرية جدّا للتجربة. مات الرجل الذي كان يورّد لهم القماش؛ وجاء ابنه وقال إنّه سيكون مكان أبيه. وتبادلا أرقام الهواتف.
مكالماتهم كلها كانت في الليل. ليس لأسباب عاطفية، ليس لأن المكالمة أرخص، ولكن لأن أمّها تكون قد نامت. بدأوا بالحديث عن أنفسهم؛ حكى كل شيء عن عمله مع أبيه، عن عمله الذي لا يحبّه ولا يعرف غيره، عن افتقاده للأصدقاء. ثم حكت كل شيء عن عملها مع أمّها، عن عملها الذي لا تحبّه، عن عدم معرفتها بمعنى الأصدقاء من أصله. ثم بدأ يحكي لها عن العالم خارج بيتها، عن التجار، عن مشاجراته مع زبائنه. وحكت له عن العالم داخل بيتها، عن العميلات، عن مشاجراتها مع زبوناتها.
قال لها:"ضميني". كان هذا جديدًا عليها. ولم تعرف كيف تضمّه عبر التليفون ولكنّه قال لها: "نتخيّل". ثم قال لها إن جسدها جميلٌ. وهي لم يهمها أن يكون جسدها جميلا فعلا بقدر ما همّها أن يخبرها "رجل" بهذا. وتحولّت المكالمات للقاءات حميمية تبهجها. بالرغم من أن لقاءات الواقع لم تحمل لها نفس بهجة حميمية المكالمات. ليس فقط لوجود أمّها، ولكنّها كانت تنظر له ولا تعرفه. نبرة صوته مختلفة في التليفون وصورته المتخيلة غير صورته الواقعية. كان في خيالها أقل سمرة. تحب البشرة السمراء، ولكن عند درجة معينة من الإسمرار، تتوه الملامح في الوجه ولا تجدها. في خيالها، ملامحه واضحة وقريبة بعكس الواقع. وكان ما يهمّها في كل لقاء واقعي أن ترتدي شيئا يخبرها في المكالمة أنه كان جميلا عليها. صارت اللقاءات تمهيدا للمكالمة الليلية. ولما لم يعد لديهما جديد يُقال، صار كل ما يفعلانه هو ممارسة الجنس المتخيَّل.
ولكنّها سأمت الوضع مع الوقت. ملّت الفتى وأحاديثه المتكررة، وملّت حتّى العبارات التي يكررها كل مرة وهو منتشٍ. اكتشفت أنّ بإمكانها الضحك في التليفون بدون أن تكون هي تبتسم فعليا في الواقع، واكتشفت أنّ بإمكانها التنهد بلذّة بالرغم من عدم استمتاعها من الأساس. أما ما لا تتذكره فهو متى بدأت تنام فعلا وهو يتكلم. ليس نوما كاملا، ولكنها غفوات قصيرة تضعها في الحد الفاصل بين النوم واليقظة.
مكالمات الليل لم تناسب عملها، أمّها توقظها مع شروق الشمس، والعمل يتضاعف في موسم الأعياد ويرهقها ولا تأخذ كفايتها من النوم. يتكلّم، وتغفو قليلا فترى مقصات تطير حولها. تغفو، فترى أمتارًا من قماش الدمّور الخشن تقترب منها. تغفو، فترى زبوناتها يرتدين ملابسهن الداخلية التي فصلتها لهن وينظرن لها في شهوة وتشف. تخبره أنّها تحتاج أن تنام لأن لديها عملا كثيرا في الصباح فيرد أنّه يحتاج لوجودها معه.
ثم بدأ هذا الحلم المتكرر. لم تأتها صورة الحلم كاملة من أول مرة. بدأت بجدار ليس مرتفعا جدّا ولكنه أعلى من قامتها. الجدار ليّن رطب. في المرّة التالية عرفت بوجود الفتى على الجانب الآخر من الجدار. وهكذا، كل مرّة يزداد عنصر في الحلم حتّى اكتمل. الجدار ممتد من الجانبين بلا نهاية. هو يقف في الناحية الأخرى، يقول لها كلاما جنسيا مثيرا من وراء الجدار. إحساس بالخزي والضيق يخيمان على الصورة. في الجدار آثار لباب قديم مسدود بالطوب، تقف مستندة بظهرها إليه وتبكي. ينادي عليها ويقول بشهوة: "بحبّك". تمسح دموعها وتتمالك نفسها وترد: "وأنا بحبّك".
في المكالمة الأخيرة، ذهبت في غفوة معتادة رأت فيها  الحلم المتكرر. أيقظها بندائه عليها. قال لها: "بحبّك". كانت المرة الأولى التي يقولها فيها. أغلقت الخط في وجهه، ولم ترد على مكالماته.
بعد أسبوعين، وعندما جاء موعد زيارة بائع القماش، لم يأت الفتى. أرسل شخصا بديلا، والذي تبادلت معه الفتاة أرقام التليفونات، وصار يكلمها ليلا بعد أن تنام أمها.

Friday, September 2, 2011

"هل يقسو القلب مع طول السفر؟"

لم أستقر في بيت واحد طويلا. ولدت في المدينة المنورة وأقمت هناك حتّى السنة الأولى الإبتدائية، ثم عدنا للقاهرة. شقتنا كانت في "أرض اللواء"، وأقمنا مع جدّي في "باب الخلق". فترة الدراسة نقضيها في بيت جدّي حيث مدارسنا، في الإجازات، نقيم في شقتنا. سقطت عمارة أرض اللواء، لأن شخصا امتلك أرضا مجاورة للبيت أراد بناء برج، فأصاب أعمدة البيت في مقتل، وتداعى البيت كتلة واحدة. كنا وقتها في بيت جدّي. أعطتنا الحكومة شقّة بديلة في "إمبابة"، فكررنا لعبة الدراسة والإجازة. ولكننا لم نحب جيراننا سكان الإيواء، ولم نستطع التكيف مع رائحة المجاري المنبعثة على الدوام، فتركنا الشقة، ثم اشترينا شقة جديدة في الهرم منذ بضعة أعوام وانتقلنا إليها تماما، ولم نغيّرها إلى الآن. أين ذكرياتي إذن؟ لا أحن إلى موضعٍ ما. أتذكر أياما من السعودية، وأياما في أرض اللواء المنهارة، وأخرى في امبابة. معظم ذكرياتي في شقة جدي في باب الخلق، ولكن هذا ليس مرادفا للحنين. تعودت ترك كل شيء ورائي بصورة ملفتة للنظر. لم أتعود أن تدوم علاقتي بشيء طويلا. بدلّت أصدقائي، أماكن إقامتي، اهتماماتي، وحتّى أفكاري في وقت أقل من أن أرتبط بها. تعودّت الفراق. أنا في رحيل دائم نحو ما لا أدركه.
سقوط البيت علمني شيئا: البيت ليس الأمان والاستقرار.ما زال الذعر الذي رأيته على وجه أمي عند عودتها من موقع المنزل المنهار. أذكر كلماتها جيدّا، رغم أن هذا ماض بعيد على ذاكرتي الضعيفة: "تراب .. كل حاجة راحت". لن أعرض نفسي لشيء مماثل. أفكر كثيرا في السؤال الذي يسألونه من باب اللعب :"لو كان البيت سيقع، وسأختار أشياء محدودة، ماذا سأنقذ؟" عندي بهذا قائمة واضحة جدّا أجددها من حين لآخر. ودربت نفسي: لا يفيد التعلق بشيء، قد ينهار في أي لحظة. البيت: أربعة حوائط لاستقرار عابر، أقرب لنُزُل. ملابسي، كتبي، سريري، أدواتي الشخصية: كلّها أشياء يمكن الاستغناء عنها. الشيء الوحيد الذي سأندم على فقدانه هو كتاباتي؛ وبالتالي: صرت لا أكتب في ورق. وتلف الـ" هارد ديسك" مرّة وضياع ما عليه علمني شيئا آخر: ألا أكتب إلا في المدونة؛ الانترنت الذي يمكن استخدامه من أي مكان. على سفر دائم، رغم أني لا أسافر. وكل مقيم سيغادرني أو سأغادره. أتأمل حنين أمي للبيت الذي نشأت فيه، وأبحث عن حنين مماثل لأي مكان ولا أجده. أرى أشواق أصدقاء قدامى حين يلتقون وأبحث عن شخص أشتاق له شوقا مماثلا فلا أجد كذلك. أتذكر أشخاصا، أتذكر لحظات سعيدة، ولكنّ التذكر غير الحنين. لا أريد لشيء أن يعود. في سفر دائم إلى الأمام، ولا أملك ترف الرغبة في العودة. "ما طمح إلى رؤيته شاهده، لكنه لم يدركه". أنا في تخلّي دائم عن كل ما يمكنني التخلّي عنه. ليس زهدا؛ انعدام قيمة. الأشياء لا قيمة لها. كل ما أمتلكه هو للاستخدام، ليس للتملّك. المسافر لا يبني بيتا في مدينة سيغادرها ولن يعود إليها. قطع ملابسه محدودة، وشنطة سفره بها القليل من المتاع، القليل من الزاد، القليل من الونس.
ذكرتني رواية (هاتف المغيب) بحالتي. الفتى ذو الهاتف الذي يدعوه دوما للسفر نحو مغيب الشمس. "قال إنه لم تدم علاقته بموضع، وعندما يخيل إليه أنه بدأ يعتاد مكانا يبزغ الهاتف، هكذا يفارق ما اعتاد أو ما أوشك الاعتياد عليه .. لا يمكنه الحكم على صلة بمنزل أو دار أو وطن!" هكذا أنا، لم أتعلق بموضع أو بفكرة أو بحالة أو بشخص؛ سأفارق. تساءلتُ : هل لدي هاتف يدفعني لشيء لا أعلمه؟ إذ تبدو لي أحيانا الحوادث والانتقالات المتكررة مفقودة من سياقها. أفتقد السياق الأكبر الذي سيؤدي إليه كل ما يلم بي. ليس ما أريده هدف أكبر، أو غاية نهائية؛ إنما جلّ ما أتمناه سياق واضح. أمّا الرحيل الدائم لنداء هاتف لا أعيه فمربك وينزعني من كل إطاراتي. أحيانا أنظر للأشياء التي أمتلكها بالفعل وأفكر: هل هو نوع من الظلم أن أتخلى عن كل هذه الأشياء؟ أقول عن شيء ما :هيوحشني، ولكنّي أعود فأتذكر كل ما تركته، فأعرف أن الألم وان زاد فهو إلى زوال. وأن غربة البدايات القاسية فارقتني، غربة الآن مُدرَكة معتاد عليها. "وهنت غربته مع اشتدادها". الكل راحل وإن طال بقاؤه. حتّى ما أقوله عن نفسي –هنا أو في لقاءات الأصدقاء- لا أخشاه، في الشهر القادم لن أصبح نفس الشخص الذي قال هذا الكلام؛ لن يكون له قيمة بعد فترة قصيرة وإن طالت.
في أحد أحلامي المشوشّة: أرى جمعا كبيرا من البشر، رحيل يشبه رحيل أهل النوبة عند بناء السد، حولي كل البشر الذي عرفتهم في حياتي، هناك حالة من البريّة والفطرية مسيطرة على المشهد، كأن الجمع عرايا ولكنهم ليسوا عرايا، يمسك كلٌ في يده بإطار للوحة أجهل ما فيها. لا أتذكر إمساكي بواحدة، ولكنّي أدرك في الحلم أن عليّ معرفة محتوى اللوحات، ولا أنجح في هذا. ينبعث صوت من كل الاتجاهات: مميّز، واضح، جليّ، صوت لا ينتمي لشخص ولا لآلة، كأنه "الصوت" في ذاته، يقول جملة واحدة : ".... يا سميّة". يرجني سماع اسمي، ولكن يفلت مني نصف الجملة الأول. قال كلمة واحدة، كلمة جامعة، الكلمة التي تحوي سر حياتي كلّه، كان كأنه يجيب عن كل تساؤلاتي، ولكنّي لم أسمعها. أجري في الحلم، أحاول اقتحام صفوف البشر، أصرخ وأنا أبحث عن مصدر الصوت، يخيّم صمت تام، لا صوت إلا للأقدام الزاحفة لكل البشر الذين عرفتهم، ينظرون لي بلوم، ولا يفهمون شيئا. عندما استيقظت من النوم، كان هناك خواء رهيب يملؤني. كنتُ أدرك بشكل ما أن هذا الحلم لن يتكرر، وأنني كنت أحتاج لمعرفة ما تحتويه اللوحات، وأن الكلمة التي لم أسمعها هي الحل لكل شيء. وأوقن أن لا بديل الآن سوى الركض، سوى مواصلة الرحيل ولكن بخطوات أسرع من خطوات البشر الذين أعرفهم، بحثا عن الصوت الذي فقدته.
يقولون أن على المسافر في الصحراء ألا يخلو لنفسه كثيرا. كثرة الاستغراق داخل الذات قد تضيعها. "الأهم أن يصغي كل إنسان إلى أصوات الآخرين، الامتداد اللا نهائي والصمت الكوني وغموض النجوم في الليل، والاحتمالات الخبيئة المفاجئة، جميع هذه العوامل جالبة للذهول، عندئذ ربما يضل الإنسان، يتوه عن نفسه، وهذا من عوارض السفر الطويل". و"ما كان راسخا يتشظى". مع طول السفر، والصمت الطويل، يلهو المرء عن الآخرين ويغوص داخل نفسه و"إذا جنح إلى انفراد، وأمعن الفكر فيما يستعصي عليه بلوغه، أو تستحيل رؤيته، أو اللقاء به، المفاجآت بلا حصر، المعلوم منها قليل، والمتوقع كثير، وما خفي علمه عند الله!" أنا لم أصل لهذه المرحلة من الصمت، ولكنني على طريق السفر؛ وكل ما أفعله خارج ذاتي هو لإلهائي عن الغوص داخلي. أخشى الضياع فعلا في دوامات الأسئلة التي لا إجابة لها. أخشى في غمرة رحيلي أن أكفّ عن الجميع إلاي، أن أصمت وأغوص في ذاتي فتضيع منّي وأتوه عن نفسي.
ما قاله لي صديق يوما عن أن العمل هو الخيار الوحيد يتطابق داخلي مع المسافر الدائم نحو جهة لا يعلمها. لا خيار سوى تلبية الهاتف الذي لم أسمع ما يخبرني به جيدا. "العمل" بالمفهوم الواسع؛ الحياة. أن أحيا. لستُ أقصد اغتنام اللذات أو الاكتفاء باللحظة؛ ما أقصده هو أن أمارس "وجودي" حتّى ولو لم أكن قد اخترتُه. أن أقيم في المدينة بقدر ما تتاح لي الإقامة. أدركُ رحيلي عن الأشياء قريبا، كل ما أتمناه، أن أدرك إلى أين سيأخذني الرحيل. كل ما أتركه خلفي، كل الأفكار التي ارتديتها وخلعتها، المعتقدات التي تركتها ورائي، الأشخاص والأماكن والاهتمامات – هل سيؤدي بي كل هذا إلى مفهوم أعمق؟ هل هناك سياق فعلا أفتقده؟ أتمنى فقط أن أستطيع رؤية البازل الذي أضع قطعه بطريقة عشوائية لم يتضح لي من خلالها أي ملامح أوليّة للصورة التّي أُكونُها. إذ يخيّل لي أحيانا أن هذه القطع المنفصلة لن تتصل أبدا، وأخشى ما أخشاه أن أصدّق هذا.
"لكم يبدو الفراق القسري وعرا، صعبا، بل إنه سعى وعنده إدراك بظلم خفي حاق به"

الاقتباسات كلّها من : هاتف المغيب – جمال الغيطاني

Saturday, August 6, 2011

خوف مرضيّ


كان لديّ دوما هذا الخوف المرضيّ من الحفلات. ليس الزحام، ليس الضجيج؛ ولكنّه هاجس يقترب من اليقين أنني في لحظة درامية وسط الرقص المحموم، سأكون رافعا إحدى يدي، عينيّ مفتوحتان، والعرق في كل مكان، في هذه اللحظة سأتجمّد تماما. لن يكون بإمكاني الحركة وسأثبت على هذه الصورة. لن يلحظني أحد. وستبدأ أعضائي الثابتة على أوضاع غير مريحة تؤلمني. سأعيش ذل ومرارة الحالة. ستنتهي الحفلة، ويندفع الجمهور فجأة في اتجاهي، وأنا متجمّد. سأسقط وأتحطّم إلى قطع صغيرة متناثرة لا يعبأ بها أحد. يلمها عاملو النظافة مع المناديل وعلب المشروبات الغازية وأعقاب السجائر.

هي أصرّت أن نذهب للحفلة. قلتُ لها أن بإمكانها أن تأتي لبيتي، نسمع الأغاني ونرقص وحدنا ثم حين نتعب نذهب للسرير ونقضي وقتا لطيفا، ولكنّها لم توافق. قلت لها أن الجو حارّ جدّا وأنا أخشى علي جسدها الضعيف ألا يحتمل، لم ترض. قلت لها أن الحفلة مزدحمة والكثير من الرجال هناك قد يؤذونها وأنا لن أستطيع حمايتها من كل هؤلاء، لم تقتنع. نفذت منّي الحيل فأخبرتها الحقيقة، فقالت أنّها ستكون بجانبي وستنتبه لي، ووعدتني إذا تجمدت أن تساعدني على الخروج.

 الجو كان حارّا فعلا، والكثير من الرجال تحرشّوا بها وأنا لم أستطع حمايتها منهم جميعا. الحفلة ساخنة لأقصى درجة، والحاضرون بهم مسّ من الجنون وحمّى من الرقص تجعل الحفلة تموج. غضبتْ منّي لأنني تجاهلتُ الشاب الذي التصق بها.وأنا غضبتُ من نفسي ولكنّي لم أكن لأستطيع دفعه فعلا. ابتعدت عنّي ووقفت ترقص وحدها. كنتُ أرقب رقصها الذي تستفزني به، وألاحظ الشباب الذي بدأوا يحيطونها وأفكّر في شيء واحد: ماذا لو تجمدتُ الآن؟ هل ستساعدني على الخروج كما وعدتني؟ كان عليّ ألا أستجيب لها. كان يجب أن أكون حاسما أكثر من هذا. لمتُ نفسي على ضعفي، ولكن ليس لي من الأمر شيء. كانت تبتعد وأصبحت لا أراها جيدّا. سأتجمّد في أي لحظة وأتكسر ولا ينتبه لي أحد. اقتربتُ منها، كنتُ أريد رجاءها أن تخرجني كما وعدتني عندما أتجمد. لم أستطع أن أصل إليها. رفعت يدي وبصوتٍ رفعته قدر الإمكان ناديتُ عليها. نظرت لي شذرا ولم تُعرني انتباها. لاحظني واحد من الشباب الملتفين حولها. كنتُ خائف جدّا. رفعت يدي مرّة أخرى وأخذت ألوح لها وهي لا تهتم. اقترب منّي الشاب وضربني على رأسي فسقطتُ على الأرض. لم أفقد الوعي تماما. كنتُ مدركا ما يحدث، أشعر بالأقدام من فوقي. ولكنّي لا أستطيع الحركة. الألم في كل مكان. سأتكسّر الآن إلى قطع صغيرة متناثرة لا يعبأ بها أحد. يلمها عاملو النظافة مع المناديل وعلب المشروبات الغازية وأعقاب السجائر.

Wednesday, August 3, 2011

كحل أسود

انكببتُ على العمل الذي أنجزه من البيت بشراهة. كان الضيق يملأ صدري فقررت أن أقتل إحساسي تماما. عملتُ كالحمار. كتبتُ ألف كلمة من الألف وخمسمائة المطلوبة وقررتُ أن آخذ استراحة. أخذتُ جولة في الغرفة فاكتشفتُ قلم الكحل الجديد، هديّة صديقتي التّي لا أحبّها. أخذته لأجربّه.

أمام المرآة:
عينيّ واسعتان. بارزتان للخارج. كحلتهما من الداخل. ثم استغرقتُ في النظر لهما. أغوص. أخذتُ القلم مرّة أخرى وأضفتُ خطّا سميكا تحتهما. أعجبني. لونت الجفن بالكامل. أعجبني أكثر. تأملتُهما. ثم لونت المنطقة بين الحاجب والعين. وثخنت حاجبي جدّا. تذكرتُ أن زميلتي التي تشاركني السكن بالخارج فذهبتُ لأغسله. رنّ الهاتف قبل أن أنتهي. خرجت من الحمّام وقد ساح الكحل على وجهي كلّه وإن بقى السواد حول عيني. جففته سريعا بمنديل. قطرات الماء المتبقيّة كانت كالعرق. استقبلتُ المكالمة المستفزّة. وأغلقتُ في وجه المتصل. في طريق عودتي إلى الحمام كنتُ أكلّم نفسي بغضب وأسبّ بألفاظ بذيئة وأنا مغمضة عيني. ذُعرتُ على هزّة من يد زميلتي. وجدت الهلع على وجهها: "مالك؟" رددتُ بغضب: "تحولّتُ لعبادة الشيطان." قالت ببساطة مخلّة: "بس احنا في رمضان والشياطين متسلسلة". أخبرتها أن هذا بالذات هو السبب الرئيسي. لأنّه سيكون مشغولا بفك سلاسله وأصيع أنا براحتي. نظرت لي البنت في بلاهة. قررت أن أمارس اللعبة لآخرها فأدرت موسيقى ثقيلة وارتديتُ ملابس سوداء وأطلقت شعري بلا رابط. وأمضيت اليوم كلّه كلما تكلمت معها تكلمت بصوت غليظ. سألتني في الليل قبل أن ننام: "لمّا رمضان يخلص، هتعملي ايه؟" صدمتني. لم أجد ردّا حاضرا في ذهني. فكرتُ قليلا ثم قلتُ:"هغسل الكحل". هزّت رأسها في تفهم ونامت. ونمتُ أنا الأخرى. في الحلم جاءتني وحوش حول عيونها أسود جدّا وحواجبها ثقيلة، تسبُني بألفاظ بذيئة وتلتهم مخي.

Sunday, July 31, 2011

سجائر

في فيلم I am legend يفنى البشر بوباء كانوا يظنون أنّه سينجيهم. يبقى عدد قليل، بعضهم معافى وهم الأقل، والباقي تحولّوا لوحوش لا تحتمل الضوء. لنفكر في الوحوش التي تعيش في الظلام. نتخيّل شخصا أو وحشا لبث في الظلام طوال حياته، النور هو عدوّه الأشرس. يقضي حياته في الظلام ولا يحتك بالضوء إلا نادرا. كيف سيصنّف الضوء؟ الضوء له ليس كيانا طيبّا على الإطلاق.

أعتقد أنني أمتلك بعض مهارات الخفاش. أتحرك في الظلام بمهارة، لا أخافه. عندما ينقطع التيّار أستطيع أن أجد طريقي دون أن أُسقط شيئا. لا تؤذيني العتمة بقدر ما يفعل النور. نور الغرفة مطفأ ما لم تكن هناك حاجة ملحة للقراءة. يشتكي من يستخدم جهاز الكمبيوتر الخاص بي من أنني أستخدم إعدادات إضاءة منخفضة. النور يؤذيني فعلا. أكره الشمس، ولو كان الأمر بيدي لألغيت النهار من كل مواعيدي ولفعلت كل شيء في الليل. لا أستطيع التركيز ولا المذاكرة ولا القراءة طالما الشمس فوق رأسي. أقدر مجهوداتها في تدفئة الأرض والنباتات والصحة والـ .....الخ، لكنّي لا أحتملها.

ماذا يحدث لخفافيش الظلام أمثالي، أو للوحوش إذا غشى عيونها النور فجأة؟ وحوش الفيلم كانت تجري مختبئة مرّة أخرى في داخل الظلام. أنا أغمض عينيّ بشدّة، حتّى ينتهي السبب الذي أضيء النور لأجله، ثم أفتحهما في الظلام مرّة أخرى.
والفقرتان الأخيرتان تحملان المعنيين الحقيقي والمجازيّ.

هناك فكرة كليشيهية يرددها الحالمون بغد أفضل ومستقبل مشرق والذين يأملون في حياة طويلة وسعيدة -شوف الإفترا بتاع البني آدمين- ويؤمنون أن "كلّه خير". يقولون دوما أن : السقوط، أو الإنحدار علامة للصعود من جديد. وأن لكل جواد كبوة. وأن الحب الحب الشوق الشوق. أن كل هذه الكآبة ستجعلني أقوى. أحترم تماما كونهم يتألمون لي، كونهم يأملون في غد أفضل فعلا، أنهم ليسوا أشرارا. ولكن عند أي محاولة لاقناعي بهذه الأفكار لا يكون على لساني وقتها سوى كلمة بذيئة شهيرة من ثلاثة أحرف.

زميلاتي في الكليّة لم يكففن عن دعوتي للذهاب لصلاة الظهر معهم، إلى أن أخبرتهم بحدّة في إحدى المرّات أن يدعنني وشأني وأنني لا أصلي. في ساعة صفاء مع إحداهن بعدها، سألتني بود عن السبب. كان الحوار لطيفا، وكانت البنت متفهمة إلى حد كبير قبلها. عندما سألتني هذا السؤال، ترددت قليلا ثم قلت لها بلطف أنني لديّ بعض المشاكل مع الأديان ومع الله. هزّت رأسها في تفهم وقالت:" الشك مرحلة مهمّة من مراحل الإيمان". شتمتها في سرّي، ولم أكلمها من بعدها.

لماذا يفترضون دائما أنني سأعود لطريقهم؟
يقولون أن الحياة تمُر. يقولون أن الشخص الحزين لا يمكنه أن يرى ما بعد حزنه. وأن من داخل الإكتئاب تأتي الفرحة. وأنا أقول: اذهبوا جميعا للجحيم. 

تحكي كارن أرمسترونج في كتابها :"الله لماذا" أن بعض القبائل البدائية في عصور قبل التاريخ اعتبرت الصيد طقسا مقدسّا. على الفتى الذي يعبر من طور المراهقة إلى طور البلوغ حتّى يصبح رجلا قادرا على ممارسة شعائر الصيد أن يمر بعدد من الطقوس. "عليه التخلّي عن تبعية الطفولة وتحمل أعباء النضوج بين عشيّة وضحاها. ومن أجل بلوغ هذا الهدف، يُحتجز هؤلاء الصبية في مقابر، يدفنون في الأرض، يقال لهم إن الوحوش على وشك أن تلتهمهم، يجلدون، يختّنون، يوشمون. وإذا سارت طقوس التكريس على النحو الصحيح، سيُجبَر المراهق على التعرف على إمكانيات باطنية لم يكن يعرف أنه يمتلكها. يخبرنا علماء النفس أن هول تلك التجربة تتسبب في اختلال نكوصي للشخصية، الذي، وإذا تم التعاطي معه بمهارة، سيؤدي إلى إعادة تنظيم بنّاء لقوى الشباب".

كتبت في هامش الكتاب بجانب هذه الفقرة:"وإذا لم؟"سيظل الشاب في هذا الإختلال النكوصي إذن. وإذا أحب العيش في الأنفاق؟ إذا لم تعجبه قدسية الصيد؟ إذا استعذب البقاء في هذه المرحلة الإنتقالية، أو صار لا يريد أن ينتقل لما بعدها؟ ويل سميث في الفيلم كان يريد مساعدة هذه الكائنات. يجري تجارب ليعيدها لطبيعتها. ليعيدها للنور. لكنّ هذه الوحوش، Dark seekers لا تريد. تهاجمه دائما وتريد أن تقتله لتشرب دمّه.

أولى خطوات التفكير العلمي الشهيرة هي "تحديد المشكلة". أن نعرف أن هناك مشكلة؛ نصف الحل. أظن النصف الثاني هو: الرغبة في حل المشكلة. لا تذكر خطوات التفكير العلمي الرغبة في الحل كإحدى الخطوات، يفترضون أنّ إدراك المرء لوجود مشكلة سيدفعه لحلّها. وهو ما أثبتت تجربتي العمليّة خطأه للأسف. أنا أدرك أن هناك مشكلة، أعرف أبعادها جيدّا، ولكنّي كلما فكرت في الإنتقال للخطوة التالية أجدني لا أريد فعلا. ليست حالة من حالات السعادة بكوني ضحيّة. أنا لستُ ضحيّة. ليست حاجة إلى لفت الإنتباه، أنا على العكس أريد ألا يلتفت إليّ أحد.

أنا لا أريد. هذه هي المشكلة بمنتهى الإيجاز. لا أريد. فقدتُ اهتمامي بالعالم تماما. فقدت اهتمامي بذاتي أصلا. لا شيء يصنع لي فرقا. هدفي من الحياة ألا أنتحر. ولكنّ ذهني صار خاليا تماما. لا ردّ عندي على أي شيء. كغريب ألبير كامو. لا شيء يهم. سألتني بنت عمّي "يعني انتِ لو متِ دلوقتي عادي؟" كانت تسأل السؤال من منظور ديني، أنا لم أرد صدمها في مفاهيمي الدينية فصمتُّ. ولكنّي فكرتُ في السؤال بشكل عام. وجدت أنني لو متّ الآن سيكون "عادي" فعلا. لم أحزن للفكرة، ولم أفرح بها. لا يهم.

هناك أشياء طيبة في الحياة. لكنّي لا أهتم لهذه الدرجة. لا أبالي. وعندما أموت لن أشتاق لشيء. نتحدث عن حبنا للحياة من داخل قوقعة الحياة، نحن نحبّها ونحن داخلها. إذا خرجنا لن يُصبح لها معنى. وأنا لا أريد أن أموت، ولا أريد أن أعيش. عادي، الأمر لا يصنع فرقا على الإطلاق. ليس لديَّ ما يجعلني ممتناً لك أو لغيرك. كل طموحي أن أبقى وحدي سليماً وأن يذهب العالم كباكيدج إلى الجحيم"*. ولكنّي حتّى لا يعنيني أن أظلّ سليما معافى.

في إحدى مرّات بحثي عن سبب للعيش من أجله، كنت هادئة ومنبسطة نوعا ما. قلتُ ليكن الهدف أن أعرف الحقيقة. وجدتها جملة كليشيهيّة ولا أصدقها. قلت لتكن أن أعرف بغض النظر عن الوصول. لم أتحمّس. ثم انتهيتُ لأن يكون الهدف هو أن أستمتع. "المتعة". وفرحتُ قليلا وقتها. وجدته هدفا لطيفا لا يكلّف الكثير من العناء ويضع قاعدة عريضة يمكن قياس كل شيء عليها ببساطة. هل هذا سيمتعني؟ نعم؟ عظيم، إذن لنفعله. لا؟ إذن فاكس. بدت مسكنا مزمنا لطيفا يمكن التعايش معه. الكارثة المخزية والمهينة هي أنني اكتشفت عدم وجود أشياء تمتعني أصلا.

لهذا السبب تحديدا، قضيتُ أياما طويلة في السرير نائمة. أو أتناوم. أستيقظ صباحا، أفكّر كثيرا جدّا فيما أفعله. أبحث كل الأشياء التي سأفعلها عندما أنهض، أدرس كل الإحتمالات جيدّا؛ كلّها مملة للغاية. أحتاج سببا قويّا يقنعني بالخروج من باب الشقّة للعالم القذر بالخارج، للخروج من باب الغرفة للشقّة المليئة بالتفاصيل المملة، خارج السرير للغرفة المليئة بكآباتي. ودائما لا أجد هذا السبب فلا أنهض. أدخن حياتي كسيجارة لا تنتهي ولا تهمني. أحرقها بنفس الكيفية ولا أحزن عندما تحترق. أدخنها بلا إهتمام. كلما حاولت قراءة كتاب جديد وجدت الأمر يحتاج مجهودا أكبر من قدرتي، فأتركه. أقرأ نفس الكتب التي قرأتها من قبل. أو للدقّة العلميّة، لا أقرأ سوى كتابا واحدا: رسائل مصطفى ذكري. ولدقّة أكبر أقرأ منه فقرتين فقط. عندما أستيقظ من النوبة، أكتشف أنني قضيتُ حوالي نصف ساعة أقرأ نفس الفقرتين. حفظتهم بعلامات الترقيم وبالتشكيل. فصرت عندما لا أكون أقرأهم بالفعل، أرددهم في ذهني. أسبحهم.

لو تُركت لنفسي ولحالي سأفعل شيئين لا ثالث لهم. قهوة وسجائر. حتّى البكاء صرت لا أستطيعه. يضيق العالم، ويجلس على صدري ولا تنزل دمعة واحدة. تركني أهلي في يوم وخرجوا جميعا وباتوا عند خالتي. ماذا فعلت طوال اليوم؟ فتحت الثلاجة أكثر من مرّة لأقنع نفسي أنني يجب أن آكل ثم أغلقها وأشعل سيجارة وأصنع فنجان قهوة. في الثانية ليلا، كنت انتهيت. أدركت أنني إن لم آكل شيئا ربما أنهار فعلا. أحسستُ بالعجز وبالإهانة. كنتُ وحدي تماما. اكتشفتُ أنني أشغل نفسي طوال الوقت برغبتي في أن أكون وحدي، وعندما صرتُ وحدي صدمتني وحدتي. ليس لأي سبب اجتماعي. لم أكتشف حاجتي المفاجئة للبشر مثلا، اكتشفت فقط أنهم يشغلوني. في وقت مثل هذا أكون منشغلة بانزعاجي منهم، أما وقد صرتُ وحدي فلا شيء يشغلني. قرأتُ وكتبت ونمت وفعلت كل شيء وبقِي العالم ثقيلا. العالم الفارغ من حولي يحيلني لفراغي الداخلي. يحيلني لعدم رغبتي فيه.

مصطفى ذكري يلخّص كل مآسي حياتي في فقرتين، أنا تافهة ووضيعة لدرجة أن تتلخص حياتي في فقرتين:

"لم أكن أتخيل وأنا صغير أنني سأقع في كل كليشيهيات الكاتب التي قرأتُ عنها بشغفٍ وتمنيتها بسذاجة وكأنها كانت تمثل لي تذكرة دخول وجرن معمودية الأدب. الوحدة، الخوف، السوداوية، النفور الشديد من المسؤولية، المرض، التفكير في الموت، الإخفاق في الحياة، الولع بالحب والفشل، قائمة طويلة تعود دائما بتوزيع مختلف، نوتة واحدة، وسولوهات عديدة. والسؤال المعذِب والمدوِّخ للروح. هل كان هذا الوقوع حتميا ولا مفر منه؟ وإذا كان، هل هذه ضمانة يمكن الوثوق بها للوصول إلى فنيّة التعبير؟وهل تلك الفنيّة مرتبطة بصدق الكليشيهات نفسها ومدى الانغماس فيها؟ وهل هذا الانغماس حُجة على فنيّة التعبير؟ أليس هناك كثيرون مروا بمرض نيتشه لكنهم لم يعبروا مثله؟ ألا يصح كما يقول نيتشه بأنه من داخل المرض يأتي التعبير عن عنفوان الصحة البدنية والعقلية؟ ولكن ألا يهدم كتاب نيتشه "هذا هو الإنسان" مقولته عن الصحة التي تشدق بها؟ وأين نضع البارانويا المخيفة في هذا الكتاب موضع الصحة؟ السؤال لا ينتهي والجواب محال."

"قدري أنني تأثرتُ بأشياء تجرعتها وحدي إلى حد المرض. أكدي لي أن شيئا سيدوم بيننا. هذا العالم لا يعنيني. فقط شئ ثابت، شئ واحد أحيا من أجله، لا أريد الكثير، بل أقل القليل. لا أرتاح كثيرا لصيغة النجاح، الناجح شخص انتهازيّ، والفشل لطمة وجودية كريمة على وجه لن نعرفه أبدا. دعيه يسقط في سلام. ما زال الخروج من البيت عصيا عليّ، لكنني أحتمل البقاء ببعض الأفكار."

السؤال لا ينتهي والجواب محال. قدري أنني تأثرتُ بأشياء تجرعتها وحدي إلى حد المرض. فقط شيء ثابت، شيء واحد أحيا من أجله. هل كان الوقوع حتميا ولا مفر منه؟ ما زال الخروج من البيت عصيا عليّ.هل تلك الفنيّة مرتبطة بصدق الكليشيهيات نفسها والانغماس فيها؟دعيه يسقط في سلام.

أريد قهوة وسجائر ومكانا خاليا من البشر. ولا أريد كتبا؛ حفظت الفقرتين عن ظهر قلب.

------
* من: أن تكون عباس العبد - أحمد العايدي