Friday, September 16, 2011

يومض ثم يخبو

 "كانت كلاريسا عندئذ تشعر بأنها مقبلة على بداية حياة جديدة سعيدة، ولا تزال حتى الآن تشعر أحيانا بالصدمة حتى بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما عندما تدرك أن هذه اللحظة كانت هي السعادة ذاتها .... أما الآن فإنها تعرف أن هذه اللحظة كانت لحظة مرت وانتهت في الماضي، ولن تأتي لحظة غيرها بعد ذلك أبدا"*

أعلم أنني لن أجد إجابة لسؤالي الأزلي: "من أين جئت؟ وإلى أين سأذهب؟" .. سيظل سؤالا بلا إجابة. أعلم أن الحياة سخيفة وغير محتملة. ولكنّي اليوم، في صباح الجمعة، وقبل الصلاة، تجسّد في رأسي المشوّش إدراك جليًّ، تجسّد ناصعا مُريحا: لحظات كهذه هي التي تجعل الحياة تستمر، وتجعلنا قادرين على استكمالها على بشاعتها وعبثيتها.
كنتُ لم أنم ليلتها كعادتي في قلّة النوم، وكنتُ قد قضيت ليلة لطيفة أتحدث فيها مع أناس أتعرف عليهم، أحدثهم بالإسبانية التي ما زلتُ في طور تعلمها الإبتدائي، ويثنون على لغتي المتماسكة وذكائي الواضح، وأسمع أغنية واحدة أحببتها جدّا ولا أركز في كلماتها.
في الثامنة ونصف صباحا تقريبا حسمت أمري وقررت أن أنزل في تمشية صغيرة، أشتري الجرائد -العادة التي عدتُ لها مؤخرا بعد انقطاع طويل- أعود بعدها للبيت أنام قليلا وأصحو هادئة. بعد التاسعة بقليل كنت في الشارع. ركبت ميكروباصا يُخرجني حتّى شارع الهرم، غازلني سائقه مغازلة رقيقة وهو يسمع "راجعين .. نعشق وندوب ونعيش مع بعض حياتنا .. راجعين .. ما يفيدشي هروب من شوقنا ومن حكاياتنا"**. وأنا، المحظوظة دائما في أغاني الميكروباصات، اندمجتُ مع الأغنية وأخذت أدندنها. والسائق، الذي كان شابا وسيما وجذابا، دندن معي الأغنية بهدوء، مستغلّين، أنا وهو، كوني الراكب الوحيد. وشيعني بابتسامة متواطئة استقبلتُ بها شارع الهرم.
مشيتُ. عند العاشرة إلا ربع تقريبا، قررتُ الذهاب للتحرير. ركبت ميكروباصا آخر أوصلني هناك في العاشرة وعشر دقائق. جلستُ بجرائدي عند عم غزال الذي استقبلني استقبالا حافلا مقسما بكل الأيمان أنّه افتقدني كل هذه الفترة، وأنّه سأل عنّي والله. ولما كان حارس مول طلعت حرب عندما مررت من جانبه قد قال في بساطة: "نهارنا زي الفل والكعبة الشريفة"، فقد كنت أشعر أن نهارنا زي الفل فعلا. قرأتُ جرائدي وانتهزت جلوسي خلف الكراسي العالية ودخنت سيجارة بسرعة حتّى لا يراني عم غزال الذي قد يعنفني بشدّة لأنه يخاف على صحتنا -أنا وصديقتاي- وقد يخاصمني. ربتُّ على كتفه وأنا أدفع الحساب، وقد رفض بشدّة أخذ مليم واحد زيادة عن ثمن فنجان القهوة العظيم الذي يصنعه.
مشيتُ في شارع شامبليون، وإذ إنني تعلمتُ من تجربة الجمعة الماضية، لم أجلس عند "عم صالح" لإن ميكروفون المسجد الذي يعلو القهوة ويحاصرنا بصوت خطيبه الأجش الجاهل الأحمق قد يفسد عليّ لحظات يوم تتصاعد وتيرة عظمته بوضوح. انعطفتُ يسارا، وعلى التكعيبة شربتُ ينسونا، وحرقتُ سيجارتين، فيما كنتُ أقرأ "ترابها زعفران" وأتأمل أصابع قدمي في الصندل الجديد المفتوح. كنتُ أفكر أنني سأطلي أظافري بالأحمر، وأن الصندل الجديد جميل، وأن أصابع قدمي التي تتنفس من أسباب روقان هذه اللحظة.
مرّت فتاة ليل بوضوح، ولكنها كانت جميلة لدرجة لا تصدّق. شعرها الذي رفعته والتف حول وجهها المدوّر، وفستانها الأبيض المنقوش الذي حبكته حول خصرها وجسدها المكتنز قليلا في دلال، كونوا جميعا مشهدا من "ترابها زعفران". وهي التفتتْ إلي، وأنا كنت أريد أن أقول لها: "صباح الخير .. اليوم حلو، صح؟" ولكنّي خجلتُ فاكتفيتُ بلحظة التواصل الروحي بين أعيننا في لحظ خاطفة. قلتُ فيها أنني أراها جميلة، وأنني في هذه اللحظة تحديدا أحبها بشدّة.
عندما مرّ بائع الساندوتشات، بأرغفة الفينو الكثيرة المرصوصة والمغطاة بمفرش نايلون رقيق، بجانب البيض الأحمر المسلوق الساكن في وداعة مبهجة- كنت أعلم أنني الآن في زمن قديم، وأن هذه اللحظات في الحقيقة حدثت من عقود طويلة مضت، وأنني، التي كانت تغبط ادوار الخراط على معايشته لهذا الذي يحكي عنه- قد تلبستني الحالة. أنا أعرف كل هذا جيدّا. أنني كلهم جميعا. عم غزال وسائق الميكروباص وبائع السندوتشات وفتاة الليل. أنا كلكم. كنت أدرك أنني أراقب السيجارة من علبة سجائري هدية صديقي الحنون، كنت أراقب كل شيء تمنيته.
لم أطلب من البائع ساندوتشا، على رغبتي الشديدة. خشيتُ أن أكسر المشهد الصامت الذي أراقبه من داخله، فيلتفت المشهد لوجودي وينصرف. اكتفيت بمتعة التأمل وبقلبي الذي يخفق في رقّة نسيتها من سنين.

أعلم أن كل هذا سينتهي. أعلم أن كل هذه المشاعر الطيبة ستتلاشى بمجرّد رؤيتي لوجه أخي القبيح في البيت. أن أسئلتي الوجودية غير القابلة للإجابة ستعود لتلح وتلتهم البراح الذي  يتنفس داخلي الآن. ولكنّي أدرك الآن، والآن فقط، أن من أجل لحظات كهذه تُصبح الحياة محتملة. (كانت هي السعادة ذاتها) ولا شيء بعدها. ولكن الحياة ممكنة الاحتمال. والنظرة المرتبكة بصدق في عين عم غزال ستظل هناك، وخصيلات شعر البنت النافرة في عشوائية موحية ستظل تومض لي، وسأظل أحب فستانها الذي يوحي بالبساطة والصدق على ما يفترض أن يوحيه من ابتذال. أعي أنني أحب جسدي الآن، وأنني أحتمل العيش ببعض من هذه اللحظات. أدرك أن هناك الكثير لنفعله. أعلم أن الثورة والبلد ينحرفان لطريق مضبب وداكن، ولكنّي أعلم كذلك أن نظرة على الجموع الغفيرة، وهتافٌ وَسطها هو الذي سجعل لكل ما كان معنى بغض النظر عما سيكون. أعلم أنني لستُ فتاة الرضا التام. تمردي سيقودني دوما نحو المناطق الوعرة  المليئة بأشباح تنتظرني وتنغص عليّ سلامي النفسي. ولكنّي أشعر الآن بالامتنان لهذه اللحظات لأنها ستجعلني قادرة على مواجهة أشباحي ومصادقتهم. تمردّي نفسه هو الذي يدفع الحياة في عروق غريزتي للحياة، وهذه الغريزة هي التي ستجعلني دائما قادرة على الاستمرار. كنتُ راضية. راضية عن جسدي، عن أصابع قدمي، عن نفرتيتي المعلقة في سلسلة على صدري، وعن علبة سجائري هدية صديقي الذي  يُصر أنني شخص طيّب برغم كل شيء.

أدرك موقوتية اللحظة. أدرك الإدراك الذي يدفعني للجلوس على السور الحديدي أمام جروبي طلعت حرب لأمسك بهذه اللحظة قبل أن تنفلت مني. أفهم تماما أن الحياة قاسية، وليست طيبّة. أن هذه اللحظة التي أعيشها ليست بداية السعادة، إنّها السعادة نفسها. وأعرف أن كل ما أفعله في باقي لحظات حياتي هو البحث عن هذه اللحظات التي على ندرتها حد الوحشة، تستحق المغامرة.

الشُكر، كل الشكر، لرأس نفرتيتي.
--------------
* الساعات - مايكل كاننجهام

5 comments:

  1. تمردي سيقودني دوما نحو المناطق الوعرة المليئة بأشباح تنتظرني وتنغص عليّ سلامي النفسي.

    ReplyDelete
  2. عباراتك الموحية المدهشة تلك اصابتنى بحالة من الارتباك الجميل وفرحة ليس لها سبب

    لتصدقى صديقك ، فانت فعلا شخص طيب وجميل

    :)))

    ReplyDelete
  3. u catch me with ur words really .... just WOOOW

    ReplyDelete