Monday, September 5, 2011

فتحة في جدار


لا تتذكر متى بدأ ذلك تحديدا. ربما عندما بدأ السأم يتسرب إلى قلبها كالعادة. ربما عندما شعرت أنّها قالت كل ما يمكن قوله وسمعت كل ما يمكن سماعه. لم يعد هناك جديد ليقال من جانبها أو من جانبه.
لم تطمح العلاقة من البداية إلى أكثر من كسر الملل. كان يُدرك، وكانت تُدرك، ولم يكن من داع للتصريح بهذا أو بعكسه. في مجتمعها الذي لا يوجد به غير النساء، كانت معرفتها به فرصة غير مضمون تكرارها للتغيير. تسألها أسوأ ما يحدث لفتاة فترد أن تعمل مع أمّها من منزلهم في خياطة ملابس النساء. كل ما تعرفه عن الرجال ما تسمعه من زبوناتها عنهم. تراهم في عيونهن، في اختياراتهن للتصميمات الأكثر إثارة، في غمزاتهن على الألوان، أو في حديث أمّها العابر عن أبيها الراحل.
كان "الرجل" في البداية فضول، تحوّل إلى احتياج تعلمّت أن تتعامل معه، ثم صار رغبة هدفها فقط كسر الملل. ظهوره كان فرصة مغرية جدّا للتجربة. مات الرجل الذي كان يورّد لهم القماش؛ وجاء ابنه وقال إنّه سيكون مكان أبيه. وتبادلا أرقام الهواتف.
مكالماتهم كلها كانت في الليل. ليس لأسباب عاطفية، ليس لأن المكالمة أرخص، ولكن لأن أمّها تكون قد نامت. بدأوا بالحديث عن أنفسهم؛ حكى كل شيء عن عمله مع أبيه، عن عمله الذي لا يحبّه ولا يعرف غيره، عن افتقاده للأصدقاء. ثم حكت كل شيء عن عملها مع أمّها، عن عملها الذي لا تحبّه، عن عدم معرفتها بمعنى الأصدقاء من أصله. ثم بدأ يحكي لها عن العالم خارج بيتها، عن التجار، عن مشاجراته مع زبائنه. وحكت له عن العالم داخل بيتها، عن العميلات، عن مشاجراتها مع زبوناتها.
قال لها:"ضميني". كان هذا جديدًا عليها. ولم تعرف كيف تضمّه عبر التليفون ولكنّه قال لها: "نتخيّل". ثم قال لها إن جسدها جميلٌ. وهي لم يهمها أن يكون جسدها جميلا فعلا بقدر ما همّها أن يخبرها "رجل" بهذا. وتحولّت المكالمات للقاءات حميمية تبهجها. بالرغم من أن لقاءات الواقع لم تحمل لها نفس بهجة حميمية المكالمات. ليس فقط لوجود أمّها، ولكنّها كانت تنظر له ولا تعرفه. نبرة صوته مختلفة في التليفون وصورته المتخيلة غير صورته الواقعية. كان في خيالها أقل سمرة. تحب البشرة السمراء، ولكن عند درجة معينة من الإسمرار، تتوه الملامح في الوجه ولا تجدها. في خيالها، ملامحه واضحة وقريبة بعكس الواقع. وكان ما يهمّها في كل لقاء واقعي أن ترتدي شيئا يخبرها في المكالمة أنه كان جميلا عليها. صارت اللقاءات تمهيدا للمكالمة الليلية. ولما لم يعد لديهما جديد يُقال، صار كل ما يفعلانه هو ممارسة الجنس المتخيَّل.
ولكنّها سأمت الوضع مع الوقت. ملّت الفتى وأحاديثه المتكررة، وملّت حتّى العبارات التي يكررها كل مرة وهو منتشٍ. اكتشفت أنّ بإمكانها الضحك في التليفون بدون أن تكون هي تبتسم فعليا في الواقع، واكتشفت أنّ بإمكانها التنهد بلذّة بالرغم من عدم استمتاعها من الأساس. أما ما لا تتذكره فهو متى بدأت تنام فعلا وهو يتكلم. ليس نوما كاملا، ولكنها غفوات قصيرة تضعها في الحد الفاصل بين النوم واليقظة.
مكالمات الليل لم تناسب عملها، أمّها توقظها مع شروق الشمس، والعمل يتضاعف في موسم الأعياد ويرهقها ولا تأخذ كفايتها من النوم. يتكلّم، وتغفو قليلا فترى مقصات تطير حولها. تغفو، فترى أمتارًا من قماش الدمّور الخشن تقترب منها. تغفو، فترى زبوناتها يرتدين ملابسهن الداخلية التي فصلتها لهن وينظرن لها في شهوة وتشف. تخبره أنّها تحتاج أن تنام لأن لديها عملا كثيرا في الصباح فيرد أنّه يحتاج لوجودها معه.
ثم بدأ هذا الحلم المتكرر. لم تأتها صورة الحلم كاملة من أول مرة. بدأت بجدار ليس مرتفعا جدّا ولكنه أعلى من قامتها. الجدار ليّن رطب. في المرّة التالية عرفت بوجود الفتى على الجانب الآخر من الجدار. وهكذا، كل مرّة يزداد عنصر في الحلم حتّى اكتمل. الجدار ممتد من الجانبين بلا نهاية. هو يقف في الناحية الأخرى، يقول لها كلاما جنسيا مثيرا من وراء الجدار. إحساس بالخزي والضيق يخيمان على الصورة. في الجدار آثار لباب قديم مسدود بالطوب، تقف مستندة بظهرها إليه وتبكي. ينادي عليها ويقول بشهوة: "بحبّك". تمسح دموعها وتتمالك نفسها وترد: "وأنا بحبّك".
في المكالمة الأخيرة، ذهبت في غفوة معتادة رأت فيها  الحلم المتكرر. أيقظها بندائه عليها. قال لها: "بحبّك". كانت المرة الأولى التي يقولها فيها. أغلقت الخط في وجهه، ولم ترد على مكالماته.
بعد أسبوعين، وعندما جاء موعد زيارة بائع القماش، لم يأت الفتى. أرسل شخصا بديلا، والذي تبادلت معه الفتاة أرقام التليفونات، وصار يكلمها ليلا بعد أن تنام أمها.

4 comments:

  1. أعجبتني ..

    للأسف هو حال الكثير .. اصطناع المشاعر .. فقط من أجل الفضول .. من أجل التجربة .. من أجل سد الحاجة المتصورة

    و لكنه اصطناع هزيل .. لا يلبث إلا أن يتحول لملل تنتهي على أثره علاقة لا قيمة لها و لا طائل منها .. لتبدأ أخرى أيضاً لا قيمة لها و لا طائل منها

    يبدو أن هناك خلل ما !!

    ReplyDelete
  2. قصة جميلة يا سمية

    وواقعية ومحكمة


    تسلمي

    ReplyDelete
  3. 3amel zy el chat fe fatarat el seba el 2ola

    ReplyDelete