Wednesday, August 14, 2013

رسائل ليست موجّهة تمامًا.

ياصديقتي التي تخشى على قلبها من التدخين، وعلى عقلها من المسكرات، وعلى جسدها من السهر؛ ماذا سنفعلُ إذن بالحياة؟ الحياة لا تمنحنا رفاهيّة عيشها بمثاليّة. الحياةُ أخبرتني في يوم ودّعتُ فيه القدرة على الأمل- أن لا حقيقة سوى الوجود. والوجود ثقيل. لكنّه يخف أحيانا بالتمرّد عليه.
 
ياصديقي الذي لا يفهم ذوقي في الموسيقى، ويخشى على منطقه من هزّات المشاعر- أين وجدتَ المنطق؟ لا منطق يدفعنا سوى أننا وُجِدِنا. ولا دافع للمحاولة سوى النزق، واختبار الأشياء في مبالغتها. ياصديقي، أنا ضيّعتُ المنطقُ منّي طواعية؛ لأفسح مجالا للضَحِك.
 
ياصديقي الذي لا يفهم ما أكتبه، ويقول أن نصوصي مفككة الأفكار- كيف لا ترى اتسّاقها معي؟ ما الكتابة إلا نقرات أصابع متوترٍ يبعد بها ارتباكه عن وجهه. ياصديقي، أنا حاولتُ مرارًا ايجاد رتمٍ لنقرات أصابعي، ولكنّها استعصت على الانتظام. نحنُ عالقون، فإلى من المُشتكَى؟
 
لا أحبُّ الكتابة. البشرُ يبحثون عن أنفسهم في نصوصي، وأنا لم أجد نفسي لأدلّهم على إجابة. والبشرُ يُحاولون تفسيري عبر قراءتي، وأنا لا أضع تفسيرات، ولا أقبلها. والبشرُ يتوددون إليّ بالنُصح، وأنا لا أعرف معنى النصيحة. أنا لا أحبُّ البشر. أنا أحب الكتابة. تبقيني. تُخرج رُكاما تكوّن على كل النوافذ وحجب كلّ الرؤى. تُطلعني على أجزاءٍ أحبّها في البشر. أنا أحبُّ البشر. فقط، لو يدعونني معهم، ولكن لا يلتفتُ إليّ أحد. سأرقبُ وأصمتُ عمّا فهمتُ. ولن أخبرَ أحدًا سوى حروفي الحقيقة. الهوامش سهلة المعشر، لا تعرف الأسئلة المباشرة، تُشيرُ إلى فكرة، ويقرأها المهتّم وحده.

أنا أحبُّ الهوامش. وأريدُ أن أبقى.

Thursday, July 18, 2013

تمرينٌ على الكآبة

رأسي كان قد بدأ في الارتعاش. الإضاءة خافتة، ولا أحد في داخلي؛ وحدي كالعادة مؤتنسة بي على سبيل الأعراض الجانبية لمرض الصمت الطويل والبكاء بلا سبب. كانت الثانية التي تفصل بين أغنيتين في قائمة أغاني لم أخترها. هدأ الضجيج؛ فسكت العالم من حولي وتنفّست الروح. هذه الثانية عبرتْ فيها نفسي هذا الواقع إلى واقع لا أعرفه. كنتُ هناك هادئة لا ضوءَ حولي ومسلّطٌ عليّ، لا أحد معي سواي، ولا مكانٍ يتسّعُ إلا لي. آهو العدَم؟ آهي الرغبة في تحققها؟ آهيَ الإجابة؟ كان هذا جميلا. كان هذا مؤذيًا. من جاء بي إلى هنا؟ من ذهب بي هناك؟ ماذا  سأفعل؟

 صديقي -الذي كنتُ أتمنى أن ألقاه في مكان آخر وزمان آخر لنفعل نفس الأشياء بطريقة مختلفة- رآني في حلمٍ أقطع جلستي معهم لأقول "لقد مللت"، ثم أطير حيث النجوم أكوّنُ منها أشكال؛ صديقي -الذي أقرأه ويقرأني ونصمتُ عمّا نعرف لنثرثر عن الجمال- قال إنني كنتُ أُشبه إحدى الجنيات المسحورة التّي بغبارها وحده يتعلّم الإنسان التحليق بذراعيه. صديقي لا يعرفُ ولعي بعوالم الكارتون الخيالية؛ وبالجنيات. صديقي -ربمّا- لا يعرف أن آفتي أنني عرفتُ عن كل شيء أكثر مما ينبغي. صديقي ربمّا يعرف عن حُزن لا أملك له سبيلا، ولكنه لا يعرف أن الهدايا الصغيرة ولمعة العين يبكياني -والله- فتنفتح لهذا الحزن -الحزن!- كوّة صغيرة؛ فأتنفّس. صديقي لا يعرف أنّي أعرف.

لماذا تُفضي كلُ الأبواب إلى هاوية أو سدّ؟  لماذا لم أتعلم الطيران؟ 
أين ضيّعنا الفَرَح؟

Thursday, December 27, 2012

فقرة واحدة غير مترابطة

لأوقات قليلة في الحياة أحب أن أدعي حب العالم، ولكنّي أنهار عادة بعد الكأس الثالث وأعترف بالحقيقة. لأوقات قليلة أخرى سأرغب في ترك السجائر حفاظا على صحتي، ولكنّي أنهار عادة بعد الساعة الأولى بدونها. أفضّل أن أستخدم البلغم -الرفيق الدائم- في طفي السيجارة بعد انتهائها، وأن أضع الكحة التي تخرجه من حلقي لفمي في مرتبة الأمل المرتقب. أحب أحيانا أن أنفي صلتي بالعالم ولكن يفضحني احمرار عيني حزنا حين ينساني أحدهم في فرحه. أصحو من النوم فزعة بسبب أحلامي. هذه الليلة حلمت أننا احتضنتُ -عارية- صديقًا بعيدًا ثم قبلته. واندهشتُ من رغبته فيّ بعدها. كنتُ في الحلم بسيطة، وكان حضني محبّة ولكن عينيه فضحتا الحقيقة. الفلفل الأحمر يدفئني، ولكن نار لساني لا تفلح معها البيرة، فأجلس حزينة على كنبة صالتنا في محاولة لفهم العالم، وفي انتظار أن يصحو حبيبي من النوم ليحتضنني ويتولى قيادة العالم عنّي قليلا. أكتفي بوجبة في العاشرة صباحا وأشعر بالتخمة حتى اليوم التالي.  يصيبني حضور البشر بالغثيان، وأقشعر لتذكرهم حتى في غيابهم. للقشعريرة منحنى يشبه منحنى الدالة التربيعية. تبدأ هادئة، تتصاعد، تصل للقمة ثم تبدأ في التهاوي. أصعب لحظات القشعريرة ليس قمتّها، ولكن بدايات انسحابها. تنسحب روحي معها تدريجيّا ثم تعود دفقة واحدة بعد أن تموت القشعريرة. الوقت الذي تستغرقه القشعريرة حتى تموت، هو تقريبا نفس الوقت الذي يستغرقه دخان السيجارة قبل أن يتفتت. هناك حبة تحت عيني اليسرى منذ أشهر ولا تختفي. في أوقات الملل أداعبها وأمرر أصابعي عليها بخفة وأنزعج من وجودها، ولكني أنزعج أكثر لفكرة غيابها. الأيام طويلة للغاية، لا أشعر بالملل ولكنها طويلة فعلا. لا شيء يحدث. إطلاقا. وأنا ربيتُ الكسل حتى نضج، وصار أكبر مني. يلتهم كل الخطط المحتملة، ويوئد الأفكار الوليدة. وأعلم أنه يخطط لالتهامي، ولا أفعل شيئا، فقط: أربتُ عليه. بالأمس أتتمتُ الأربعة والعشرين بصعوبة بالغة. من كان يصدق أن هذا العام سينتهي؟ ومن يصدق أن الطفلة داخلي والتي تشعر أن العالم لم يعطها نصيبها من اللعب والحلوى بعد، تسير نحو الخمسة والعشرين بهذا النزق؟ من أين تأتي طاقة المواصلة؟ ومن أي عين تنبع الرغبة؟ وماهو الجمال؟ ما معنى الفرح؟ قررتُ ألا أضع في قائمة العام الجديد ما عجزتُ عن تحقيقه في العام الماضي، سأضع نقاط جديدة. ولن أضع أسئلة. سأكوم نتاج العام الذي يحتضر، في ورقة لم أعد أحتاجها، وأركنها في حجرة متطرفة لا يصل إليها سوى ممر معتم، يحتاج رفيقًا ومصدر إضاءة. سأرقص ليلة انتهاء هذا العام وأحتفل بموته بالسُكْر المحض. وسأكف عن التساؤل، سأكف عن التساؤل

Thursday, November 8, 2012

نشرة الأخبار



*  كُنتُ في زيارة لأمي. وأنا جالسّة على كرسيّ موضوع مباشرة تحت الضوء، مالت عليّ أمّي وهي واقفة لتخبرني شيئا. كانت عيناها واضحتين تماما، تشبهان عينيّ. وقلتُ لنفسي أن هذه أوّل مرّة ينظر فيها كل منّا لعين الآخر بهذا القُرب. لم أسمع شيئا مما قالته، ولكنني تسمرّت في مكاني، ثم غالبتُ دمعة لا أعرف سببها. كنتُ خائفة من نظراتها. كأنّها ستكتشف شيئا خبأتُه عنها. فكرّت قليلا، ثم وضحتُ لنفسي أن لا شيئا أخاف منه. ثم وضحتُ أكثر وقلتُ: أنا أكتسب عقدًا نفسية أكثر مع الوقت. صار لديّ الآن إحساس بالذنب، وخوف كالفطريّ ينبعان من اللا شيء.

* رأيتُ صديقا يضع رابطا لمدونتي في صفحته، ويصفها بأنّها من أجمل ما قرأ. فتحتُ مدونتي كالغريبة عنها، وقرأتُ ما كتبته عن نفسي طوال أعوام. كيف يحتمل أشخاص أن يقرأوا كل هذه الترهات، ولا يملّون؟ كل ما أكتبه عن نفسي مكرر. نفس الأزمات ونفس المفردات ونفس الأسلوب. نفس الحنق والملل. ما يتغيّر كل مرّة هو كميّة العبث والأسى الذي أشعر به نحو العالم. الأهم: كيف أحتمل أنا نفسي أن أعيد كل مرّة نفس الأشياء، وأدعي بفخر زائف أنني كتبتُ شيئا "جديدًا"؟

* دائرة الأشخاص الذين أعرفهم تقل مع الوقت. ودائرة المقربين تقل أكثر. ويبدو أنني اكتسبتُ مع اختلالاتي النفسية قدرة عالية على تنفير الجميع منّي. مرّة بالحدّة، مرّة بالتجاهل، مرّة بالنسيان، ومرّات أكثر لأسباب لا أعرفها. الجدير بالذكر هنا هو أنني لا أتعمد شيئا. أنا أترك كل شيء لاختلالاتي النفسيّة وهي تفعل ما تستطيع وأكثر. وتبهرني بقدرتها على فعل أشياء لم أعرف يوما استطاعتي إياها. مثلا: لا أرد على المكالمات. أنظر للهاتف وأتظاهر لنفسي أنني لا أسمعه. مثلا: أقترب من الفيسبوك بمعدل يقل تباعًا. مثلا: أرد بسخافة على أي محاولة للتقرب. وأنا فعلا لا أعرف سببا حقيقا يجعلني أفعل هذا.

* على الرغم من هذا، فإن أشياء صارت أقرب عمّا مضى. يعني، لو استثنينا الكتابة والكتب والموسيقى والنقاشات والأصدقاء والخروج إلى الشوارع وقراءة الأخبار والتواصل مع إخوتي والجلوس على المقاهي وحتّى الأكل –وهي كلّها أشياء ثانوية كما يبدو، بغض النظر عن كونها مفردات شخصيتي أصلا- نجد أن مفردات أخرى  أصبحت تلازمني أكثر مما مضى. مثلا: الصُداع، الدوار، آلام القولون، والضجر. لا يعنيني من هذه الأشياء فعلا سوى الضجر. لو أُضيف إليه الأرق، وطول أوقات الفراغ التام –تام بمعى الكلمة- يتحوّل الأمر لكارثة. مثالا بسيطا؟ الساعة الآن لم تتجاوز الثالثة عصرا. ولأنني نمتُ كل النوم الذي استطعته، فهذا يعني أنني وحتّى تُصبح الساعة الثانية عشر ليلا على الأقل لن أستطيع النوم مجددا. ما يعني بالضرورة تسع ساعات فارغة لا أعلم أي شيء عما يمكنني فعله خلالها. آه، إضافة أخرى: أحلامي صارت أقرب لكونها كوابيسا مفزعة لطيفة. أجساد حيّة متحللة وعليّ إحراقها، ودماء تلطخني، وعويل، وأشخاص مقربين أقتلهم بلا سبب. صار لديّ يقين لا أدري منبعه أن كارثة ستحل بالعالم قريبا، أو بي على الأقل.

* عموما عموما، أنا بخير فعلا. نوبات بكائي برغم أنّها صارت أقسى إلا أنّها أقل. أتصالح مع يأسي ومللي بدرجة أكبر. أكتسب مهارات التحديق في السقف وفي الحائط وفي أرضية المترو. أتعلم أن أقضي ساعات وأياما بدون فعل شيء، أي شيء. أصبحتُ أقل فزعا من الأحلام، وأكثر تصالحا مع الوحدة. وقريبا سأنهي المأساة وأتصالح مع الضجر. أنا أحسن فعلا. هدأ كل الغضب والثورة والانفعالات الزائدة، نعم حلّ محلهم الركود. لكن من يدري، ربما كان الركود أحسن فعلا. ومن يدري، ربما أستطيع يوما تحقيق حلم حياتي، وأتصالح مع العبث. 

من يدري فعلا؟

Tuesday, August 14, 2012

إن كان لكل أزمة كلمة مفتاحية، سأختار هذه المرّة "الخذلان". وإن كان لي أن أختار شعورًا واحدًا مسيطرًا، سأختار "نغزة القلب".

Sunday, August 12, 2012

No answer

عندما استيقظتُ هذه المرّة كنتُ أعلم أنني لن أستطيع النوم مرّة أخرى. كنتُ قد حلمتُ أن في جانب السرير، الذي افترشتُه عارية، ذراعًا إن استطعتُ الوصول إليها سيطير بي السرير خارج هذا العالم. تأملتُ سقف الغرفة قليلا، لا أرى شيئا في العتمة. قمتُ. خرجتُ من غرفتي فاكتشفتُ أنني وحدي تماما في المنزل. وأنني لا أعرف -أو لا أتذكر- أين الباقون. قررتُ أن لا داعي للاكتئاب. جربتُ الاتصال به، كنتُ سأخبرهُ أنني أحبه، لم يجب على اتصالي. لففتُ الشقّة عشر مرّات، قبل أن أستوعب أنني اكتئبتُ بالفعل. لو انقطع النور الآن، لا أضمن رد فعلي. أشعلتُ سيجارة، طعمها سيء، أطفأتُها. أخرجتُ طعاما من الثلاجة، رائحته سيئة، رميتُه. دخلتُ البلكونة، أعدتُ الإتصال، no answer، خرجتْ. استحممتُ، وكان جسمي باردًا، ارتعشتُ من مواجهة الهواء. تحسستُ الحبّة التي نمت تحت عيني، تغلق عيني وتجعل نصف الصورة غائبا طول الوقت. تأكدتُ أن أحدًا لم يتصل بي. لا أحد. أشعلتُ سيجارة أخرى، وأطفأتها. أفكّر في البحث عن سكينٍ. أتجاهل الفكرة. أدخل البلكونة. أفكّر في أن أطير خارج المنزل. أتجاهل الفكرة. أتأكد من الموبايل مرّة أخرى. لا أحد. الوحدة والغربة وهذه الأحاسيس، ليست قابلة للعلاج. ستهاجمني في أي لحظة أتفرّغ فيها وحدي لمواجهة العالم. أرجيء البكاء. أرجيء البكاء. لا ليست الأصوات. لا تحدثيني الآن. يرتفع صوت ضجيجها. أبحث عن السكّين. أفكّر أن أغرسه في الحبّة تحت عيني، أقترب بشدّة من المرآة، يرن الموبايل. أمّي. تسمعني كلامًا لا أتذكرّه. تتبخّر فكرة السكّين. لا رسائل ع الفيسبوك. الأصوات. الأصوات. أدير مقطعا موسيقيا، أرفع درجة الصوت لأعلى درجة. الصداع. الحبة تحت عيني. أين ذهب السكّين؟ أريدُ سيجارة. أريد أن أتكلّم. أنا خائفة. فعلا. ولا أريد أن أبقى وحدي. لا أحب ذاتي. ولا أحب العالم حين أواجهه وحيدة. العالم قبيح. العالم موحش. العالم مزيّف. وأنا وحدي. أنا وحدي. ومهما أوهمني القلب أنّه امتلأ، سأظل وحيدة. والعالم لا يسمعني. أنا أحدّث نفسي، وأجيب. ولكنّ لا إجابة مرضية تأتيني من الخارج. ولا من الداخل. لماذا لا أنتهي؟ مرّة واحدة، وللأبد؟ سأبكي الآن.

Sunday, August 5, 2012

ما بعد النقاهة

مرّت النوبة بسلام هذه المرّة أيضا. ربما لم تمر تماما، ولكنّي أحسن كثيرا. وكعادة نهاية كل نوبة، أعترف لنفسي أنني أحسد المبالغين الدراميين على قدرتهم على الاندماج والتماهي. أحسد أصحاب القضايا على قضاياهم. أحسد هؤلاء الذين أحتقر جهلهم، لأنّهم يصدقون علمهم، وهؤلاء أصحاب الكليشيهات، لأنهم يعيشون كليشيهاتهم ولا يقيمونها. أحسد من يستطيع الإمساك بلحظة مضت، ليؤكد تفاؤله بالقادم. أكرر لنفسي، أن الوحدة ليست أن يبتعد عنّي الناس. الوحدة/الغربة أن يقترب الناس جدّا، أن أصدق أنّهم صاروا منّي، ثم أعي في يوم، أنني خدعتُ نفسي. أن مشكلتي في الإحساس واقعة.أن المشكلة ليست فيهم، بقدر ما هي في أنا ذاتي. وأن المأساة ليست في انكشاف زيفهم، بقدر عدم اهتمامي أنا بهذا الانكشاف. أن الأشخاص الذين يبتعدون، أو أبتعد أنا عنهم، لم يكونوا مؤثرين لهذه الدرجة. أعترف لنفسي أنني أملّ، أن الضجر من سماتي الأساسية، وأنني لن أمشي طريقًا لآخره لأنه سيقف لي عقبة فيها جميعا.

الاهتمام مرهونٌ بالصدق، ومضادّه الادعاء؛ وليست اللا مبالاة. اللا مبالاة لا تنتمي لهذه الاحداثيات. يمكنني أن أهتم فعلا، أو أن أدعي اهتمامي؛ لا مبالاتي هي التي ستخرجني دائما خارج هذه الدائرة، وتلقي بي في دوائر الأسئلة الوجودية وتغييرالوجوه والأنماط والأماكن، في بحث محموم عن شيء لا أعرفه سيجعلني أبالي فعلا في يوم.


أقول لنفسي أن الحب رائع. أن الغربة تزول بين ذراعيه، وأن العالم يصبح جميلا فعلا في وجوده. ولكنّي أعود فأعي حقيقة أنه ليس جميلا في الخارج. أن الحب مسكن رائع لآلام العالم القبيح الموحش الذي لا يلائمني، ولكنّه لا يستطيع أبدا مهما أوتي من قوّة أن يعالج هذا القبح، وهذه الوحشة. وأن أي علاقة مهما بلغت قوتها لن تستطيع شيئا أمام مكان وظروف لا تحتويها. أن حربي مع العالم ستستمر، لأن تصالحي مع عدم استعداده لأن يُحَب، تبدو لي فكرة مهينة، ومميتة.


لا داعي للانزعاج، أنا فعلا أحسن كثيرا. تراجعت كأي طفل يحترم نفسه عن قراري بعدم التدوين. ولا زالت لديّ القُدرة على الضحك، التقاء أناس جدد، وتحديد مواعيد مع أصدقاء قدامى. لم يخلُ قلبي من الحُب، والبهجة. وما زلتُ أحتفظ بحيوات كثيرة، أنوي أن أعيشها جميعا.

Monday, July 9, 2012

تدوينة قد تكون أخيرة

اخترتُ الكتابة عن نفسي في هذه المدونّة لأسباب ليس أولّها الرغبة في الكتابة ذاتها، ولا آخرها الرغبة في الكتابة عن ذاتي. ولكنّ أهمها، أن الكتابة على المدونة تعفيني من البحث عن شخص لأحكي له، وأحملّه كل هذا. نجحتُ. على الرغم من أنني كذبتُ كثيرا على أصدقاء سألوني عن نصوص كتبتها، وادعيتُ أنّها "مجرّد كتابة". وعلى الرغم من أنني فضحتُ نفسي لأشخاص أكثر، لكنهم بقوا بعيدين بما يكفي لتجاهلهم.

بعد آخر تدوينة، جاءتني من بعض الأصدقاء ردود فعل جعلتني أعيد التفكير. قالت لي صديقة "حزنك بيبقى تقيل أوي ياسميّة"، ورأيتُ كيف تغيّر وجه صديق بعد أن قرأها. تألمتُ أكثر لهذه الفكرة. وسألتُ نفسي "كم شخصا آذيتُ؟" قررت ألا أحدّث أحدًا في كآباتي، قررتُ ألا أشرك أحدًا في أزماتي الوجودية الحادّة، قررتُ أن أكون شخصا هادئا، مرّ على الدنيا في سلام، ورحل. قلتُ لنفسي: "إذا كان كل شيء ينتهي، مهما طال، فلا داعي لإقحام الجميع في تفاصيل حزينة، قد لا تمسهم بالشكل والقدر نفسه، ولكنّها تحزنهم، إمّا لوجود حزنٍ كهذا، أو لتعاطفٍ معي بصورة من الصور". التزمتُ بعهدي. لا أذكر شكوى شكيتُها، على الرغم من أنّها لم تكن أيامًا هادئة كما تصوّر الجميع. كانت ليالٍ طويلة، تخللتها دموع كثيرة. كان خوف لا أدري مقرّه يراودني عن نفسي. كانت كلماتٌ تطفو دائما وتلح عليّ لأسجلّها، ولكنّي لم أستجب. لا أستطيع أن أكون شخصًا ثقيلا. لا أتحمّل فكرة أن أفسد أيام الآخرين، مهما كانت درجة قربهم. لذلك سألتزم بعهدي، سأجلس ما أتيحت لي الفرصة لإسعاد الموجودين، وخفيفة سأرحل متى شعرت بثقلي. سأحتفظ بحزني لنفسي، وليس في هذا أي نُبْل. ولكنّ البشر مختلفون، ومنهم من يجد البكاء وحيدًا، أقل وطأة على نفسه.

لا أعرف ما ستحمله الأيّام القادمة. لا أعرف إلى أي مدى سأنجح في الكتمان وتحمّل البعد والوحدة. ولا أعرف إلى أين ستأخذني أفكاري ورأسي الذي لا يهدأ. على أية حال، كانت أيامًا سعيدة.

Sunday, June 24, 2012

إدراكات ما قبل الامتحان بساعة واحدة

اليوم صباحا، كنت في طريقي للجامعة، أستمع لأغنية لطيفة، أقنع نفسي أنني بخير، وأن مشكلاتي مع الوجود مشكلات عبثية ستزول بمجرد النزول ومقابلة الأصدقاء والثرثرة عن الأشياء ليست ذات الأهمية. أنني شخص يمتلك كل مقومات الحياة السعيدة، فلا داعي للـ "أفورة".
ركب معي الميكروباص شيخ كبير في السن، كبير السن لدرجة مؤسية. رأى الأوتوبيس الذي يريد استقلاله قادما من ورائه، فطلب من السائق أن يشير له، وأن ينزل ليركبه. تعاطف معه سائق الميكروباص، وسائق الأوتوبيس، وتوقفت الحياة قليلا، وتوقف كل شيء يدور في رؤوس الحاضرين للموقف. صار لنا هدف واحد: أن ينزل الرجل، أن يركب الأوتوبيس، وبأقل خسائر ممكنة له. "على مهلك ياحاج" "براحتك". شخص مد له يدًا لينزل، وآخر يمد يده ليصعد. نجحت المهمة، واستراح الجميع. وأنا تمتمتُ في سرّي "كويّس". ثم فكرّت أنني لا أتعاطف مع الأطفال إطلاقا، ولكنّي أتعاطف مع كبار السن لدرجة ملحوظة. ولاحظتُ أن اهتمامي به كان غير عادي. كنت أراقبه منذ ركبتُ، ارتعاشة يده، ذهنه البطيء، الخوف في عينيه، الألم الذي لا يزول من وجهه، وكل هذه التجاعيد. راقبتُ صعوده، وراقبته من نافذة الميكروباص حتّى جلس على كرسي، وعادت الحياة المتوقفة. ثم دمعت عيني. أنا مشكلتي في الحياة ليست الوجود، لا يهمني الأسباب التي جئت من أجلها. أنا أخشى النهاية. لا أريد أن أكبر. لا أريد أن أصبح عجوزا. عدم تفكيري في أشياء محددة كالزواج، والعمل والأحفاد، والتي قلت عنها في التدوينة السابقة، ليس منشؤه عدم اهتمامي بها، ولا عدم توقعي لها؛ إنّه خوف منها. مارس عقلي الباطن ميكانيزم الدفاع بكفاءة، فلغى كل هذه الأفكار. قلتُ لخطيبي بعد الخطوبة بوضوح: "أنا مش عايزة أكبر، مش عايزة ألبس لبس الناس الكبار، وأتكلّم زيّهم .. أنا عايزة أفضل أتنطط، عايزة أفضل أعيش نمط طالب الجامعة للأبد". أخشى ذهاب نضارة الشباب، أخشى أن أصحو في يوم بألم في عظامي، ليس له سبب سوى الشيخوخة. أخشى أن أصاب بالضغط والسكّر وأمراض القلب، وأعتبره أمرا عاديًا في هذه السن. أخشى أن أموت. ليس حبًا في الحياة، وأنا أعنيها. ولكنّي أرتعب من العجز، وأرتعب من المجهول. لا أقول أنني إذا احتفظتُ بشبابي سأمارس حياة الشباب. أقول فقط، أنني لا أريد أن يشيخ جسدي فيعجزني. لا أستطيع التصالح مع فكرة أن هناك أشياء لا يمكنني القيام بها لأن سنّي لا يسمح. قفز إلى ذهني مباشرة نموذج جلال في الحرافيش، فارتعشت، وانتفض جسمي انتفاضة مخيفة بتذكّر المئذنة. قلتُ أن قسوة وجودي أنّه سينتهي. وقلتُ أن من قسوته عدم وجود طريقة لايقاف الزمن. وأدركتُ أن اكتئابي وخوفي من التغييرات المتوقعة لحياتي في الفترة القادمة ليس سببهما الخوف من هذه الأشياء في ذاتها؛ ولكن خوفي من كون هذه التغييرات تجعلني أكبر. تجعل نمط حياتي أكثر استقرارا، نمط الكبار وليس الشباب الذين يقفزون بين كل الحالات بلا خوف. ثم فكرّت أن من المؤسي أن هذه فكرة "كبيرة". هذه من أفكار كبار السن، لأن الشباب على العكس يعيشون بدون التفكير في هذه التفاصيل بهذه الهيستيريا. الشباب يرتبط بالانطلاق، بالآفاق المفتوحة، بالرغبة في تجربة كل شيء. وهم لا يبدأون في التفكير في انتهاء الحياة إلا عندما يحققون ما يريدونه منها. هذا الرعب الهيستيري من الموت ليس ملائما. وإمكانية بناء مئذنة تخلدني مستحيلة. والخلود في الأبناء، في الإبداع، في السيرة الطيبة أشياء ليست ذات معنى واضح لي. أنا أنانية جدّا في هذا الشأن. أريده لنفسي، ولا يهمني أي مما يحدث بعد موتي. أريد على الأقل أن أعرف أين سأذهب. "المغرور ببقاء النسور" لقمان، عاش أعمارًا سبعة، فملّ. وعندما وصل للحياة السابعة كان أدرك حتميّة الموت، كان زهد الحياة، فأنهاها بنفسه. وأنا لا أريد عمرًا طويلا، أريد عمرا نضرًا. وأعرف جيدّا أنني كنتُ أعني تماما ما أقوله بـ "هنتحر قبل ما أعجّز". ستكون اشكاليتي الوجودية هذه الفترة أن أتصالح مع الموت، إذ يبدو لي التصالح مع الهرم مستحيلا. سأتصالح مع الموت وأنتحر بمجرد اقترابه.

ملحوظة جانبية: العلاقة الجدليّة بين رباعيات صلاح جاهين، وانتحاره، وسعاد حسني، وانعزالها ثم موتها المريب، من الأشياء التي يجب تجنبها تماما، أو الانغماس فيها بشدّة؛ لن يمكن أبدًا التعامل معها بحيادية، ولا الوقوف على مسافة منها.

Friday, June 22, 2012

الموسمُ الأخيرُ للسأم

أذكُر المرّة الأولى التي نزلتُ فيها للبحر.شعرتُ بالشغف. الرائحة، الصوت، الإحساس، التجربة الطازجة. سعدتُ بـ "خفتي". غافلتُ أهلي، وتخطيتُ الحاجز الذي رسموه لي. سرتُ قليلا، ثم زلّت قدمي على رمال منخفضة. لم أقع، فانتعشت. قلتُ خطوتان أخريان، ثم سأجرب أن أغمس رأسي في الماء وأعد. عندما وضعت رأسي تحت الماء، أغمضتُ عيني، وسددتُ أنفي، وبدأت العد. سرت خطوتين أخريين، فزلّت قدمي في رمال أخرى. وقعت هذه المرّة، وكان الموت قريبا. جذبتني يد طفلة في مثل عمري، ونظرت لي بقلق. قلتُ لها أنني كنت ألعب. أنني لم أكن على وشك الموت. أن كل شيء رائع. ثم جريتُ من أمامها.
الآن، وأنا أتذكّر هذه التجربة، أعي أنني كنت أعرف طوال الوقت أن الموت قريب. أنني انشغلتُ بشغف التجربة، ولكنني نسيت أشياء فذهبت مني للأبد. أنني على جرأتي هذه، لم أفكر يوما في تعلّم السباحة. تركتُ نفسي للموج، وللرمال المنخفضة. وسمحتُ في كل مرّة ليد ما أن تنتشلني. يد لا أعرفها، أجري من أمامها في رعب.

لم أطبّق أبدا نظريّة "كل الأشياء السيئة تحدث للجميع عدا أنا". كنتُ أعرف أنني ببساطة يمكنني أن أصبح مدمنة، ببساطة قد تصدمني سيّارة، ببساطة قد أرسب في امتحانٍ ما. ولكنّي لم أهتم. كان يقين ما يملؤني، ويدفعني للمواصلة. يقين أن هناك أشياء لم أرها، أن العالم يفتح ذراعيه لي، أن براح الكون لن يسع براح قلبي وعقلي.
لم أتخيل أبدا أن شيئا لن يحدث لي ..

ولكنّ برغم هذا اليقين الذي كان، هناك أشياء لم أتخيّل أبدا أن تحدث لي. مثلا، لم أتخيلني أبدا عجوزا، لديها أحفاد تربيهم وسعيدة في حياتها. لم أتخيلني متزوجة أصلا. لم أتخيلني أعمل في وظيفة بمواعيد وأمارس حياة روتينية. لم أتخيّل أن أحدًا من أفراد عائلتي سيموت.  هناك أشياء لن تحدث .. ولكنّ مؤخرا، ظهرت لي صورة تأتيني كثيرا في أحلام اليقظة والمنام. تخلط بين المتوقّع والمرجو. لا أنكر أن فيها رغبة. أراني منزوية، في أركان بيتٍ ما. بإضاءة خافتة. ووحيدة. أجلس مقرفصة على كرسي متطرّف، وفي يدي زجاجة فودكا، وأمامي علبة سجائر. أشرب وأدخن، ولا أتكلّم. سيأتي الشخص الأقرب إليّ، سينزعج، سيشعر بالعجز، ويرغب في مساعدتي، ولكن لن يستطيع. سيحاول احتضاني، ولكنّي سأذوي بين يديه. تبدو الصورة أقرب إليّ يوما عن يوم.

الجرح الذي جرحته لنفسي منذ يومين، بدأ يلتئم، ولم يعد يؤلمني. الألم البسيط الذي كان يشغلني التفكير فيه طول الوقت عن التركيز في كل شيء، ذهب؛ فعادت التفاصيل الكثيرة تزعجني. واليوم فقط، عاد السأم. سئمتُ كل شيء. سئمتُ التفاصيل المزعجة، سئمتُ البشرَ، سئمت الأسئلة. سئمتُ الموسيقى والكتب والأفلام. لم أعد أريد فعل شيء. سئمتُ المناهج المتخلفة، الحفظ الذي هو سمة كل شيء، النظام التعليمي الذي يقتل أي رغبة في التعلم الحقيقي. سئمتُ الزملاء، وسئمتُ الأصدقاء، وسئمتُ البشر العابرين في الشوارع. سئمتُ الطرق المزدحمة، والضوضاء التي لا تنقطع، أغاني الميكروباصات التي تمنعني من اختيار ما أرغب في سماعه، أضواء المحلات المؤذية، أعداد البشر التي لا تُحتمل، والبشر الذين يقتحمون حياتي بدون إذن. سئمتُ جسدي الذي لا أستطيع تحريره دون أن يتطفل عليه أحد. سئمت كُرهي له، وكرهي لنفسي، وسئمت الأعين التي تحاول اثبات العكس. سئمتُ الرجال، والأفكار الذكورية، سئمتُ المتحرشين، والمتحرش بهم، سئمت النقد والتعليق. سئمتُ الغباء والعقول التي لا تريد التفكير. سئمتُ الأديان، والآلهة، والمؤمنين بهم. سئمتُ رغبات الجميع في فرض نمط يرتضونه عليّ. سئمتُ عقلي، الذي يوهمني طوال الوقت أنّه يعرف، ثم يصدمني فجأة بأنني لا أعرف أي شيء. سئمتُ تكرار نفس الشوارع، نفس البشر، نفس الكلام، نفس كل شيء. سئمتُ المشاكل المُدركة حلولها، ولكنّها مستحيلة. وسئمتُ عدم قدرة العابرين على تقبلي. سئمتُ الأموال، وذل الحاجة إليها، وهوان طلبها. سئمتُ عبث الوجود في ذاته، عبث ألا تصب حياتي كلّها في هدف نهائي. سئمتُ الثورة والسلطة والسياسة والمظاهرات والبيانات والتكذيبات والجنسيات وجوازات السفر وتصريحات الإقامة. سئمتُ ايمان الناس بأشياء لا تستحق. سئمت الوطن، والعائلة. سئمتُ العالم بأكمله. سئمتُ القراءة، سئمتُ حتّى الكتابة. لا جديد تحت الشمس. وسئمتُ الأسئلة التي لا إجابة لها.

أفتقدُ أياما، كان قلبي فيها مؤمنا، وعقلي مصدقّا.

حلمتُ أنني طائر صغير، وضعته أمّي في قفص صغير، ليس له باب. أدخلتني من بين عواميده. ثم تشاجرتُ معها، فرحلتْ. كان بإمكاني أن أخرج مثلما دخلت، ولكنّي انتظرتُ. كبرتُ فجأة. ولم يعد باستطاعتي الخروج من بين الفتحات، وجسدي العجوز لن يحتمل دماء جراح جديدة. لقد صرتُ "ثقيلة" جدّا. هل أنا المسؤولة، أم أمّي؟

يبدو أنني جلستُ في قفصي وحيدة أكثر مما ينبغي، فوضعتُ نظريات كثيرة عن الطيران، ولم أنفذه مرّة واحدة. وفي أعقاب هذه الجلسة، شعرتُ بالملل. سئمتُ كل النظريات التّي لا تجعلني أتحرك قيد أنملة عن وضعي الحبيس، النظريات التي تزيد من قسوة الحبس. وتزيد الملل. 

أريد أن أتحرر من هذا العالم، حقّا وبصدق هذه المرّة. أريد أن أتحرر منه مرّة واحدة وللأبد. ولكنّي أفتقد جرأة من لم يجرّب التحليق أبدا. لذا سأكتفي بأن أحقق صورتي المتخيلة عن نفسي. أن أنزوي في أحد أركان حجرة، أشرب، وأدخن، وأفكر في عبث الحياة وقسوتها، فيما يحاول حبيبي احتضاني، فيفشل.