Thursday, December 27, 2012

فقرة واحدة غير مترابطة

لأوقات قليلة في الحياة أحب أن أدعي حب العالم، ولكنّي أنهار عادة بعد الكأس الثالث وأعترف بالحقيقة. لأوقات قليلة أخرى سأرغب في ترك السجائر حفاظا على صحتي، ولكنّي أنهار عادة بعد الساعة الأولى بدونها. أفضّل أن أستخدم البلغم -الرفيق الدائم- في طفي السيجارة بعد انتهائها، وأن أضع الكحة التي تخرجه من حلقي لفمي في مرتبة الأمل المرتقب. أحب أحيانا أن أنفي صلتي بالعالم ولكن يفضحني احمرار عيني حزنا حين ينساني أحدهم في فرحه. أصحو من النوم فزعة بسبب أحلامي. هذه الليلة حلمت أننا احتضنتُ -عارية- صديقًا بعيدًا ثم قبلته. واندهشتُ من رغبته فيّ بعدها. كنتُ في الحلم بسيطة، وكان حضني محبّة ولكن عينيه فضحتا الحقيقة. الفلفل الأحمر يدفئني، ولكن نار لساني لا تفلح معها البيرة، فأجلس حزينة على كنبة صالتنا في محاولة لفهم العالم، وفي انتظار أن يصحو حبيبي من النوم ليحتضنني ويتولى قيادة العالم عنّي قليلا. أكتفي بوجبة في العاشرة صباحا وأشعر بالتخمة حتى اليوم التالي.  يصيبني حضور البشر بالغثيان، وأقشعر لتذكرهم حتى في غيابهم. للقشعريرة منحنى يشبه منحنى الدالة التربيعية. تبدأ هادئة، تتصاعد، تصل للقمة ثم تبدأ في التهاوي. أصعب لحظات القشعريرة ليس قمتّها، ولكن بدايات انسحابها. تنسحب روحي معها تدريجيّا ثم تعود دفقة واحدة بعد أن تموت القشعريرة. الوقت الذي تستغرقه القشعريرة حتى تموت، هو تقريبا نفس الوقت الذي يستغرقه دخان السيجارة قبل أن يتفتت. هناك حبة تحت عيني اليسرى منذ أشهر ولا تختفي. في أوقات الملل أداعبها وأمرر أصابعي عليها بخفة وأنزعج من وجودها، ولكني أنزعج أكثر لفكرة غيابها. الأيام طويلة للغاية، لا أشعر بالملل ولكنها طويلة فعلا. لا شيء يحدث. إطلاقا. وأنا ربيتُ الكسل حتى نضج، وصار أكبر مني. يلتهم كل الخطط المحتملة، ويوئد الأفكار الوليدة. وأعلم أنه يخطط لالتهامي، ولا أفعل شيئا، فقط: أربتُ عليه. بالأمس أتتمتُ الأربعة والعشرين بصعوبة بالغة. من كان يصدق أن هذا العام سينتهي؟ ومن يصدق أن الطفلة داخلي والتي تشعر أن العالم لم يعطها نصيبها من اللعب والحلوى بعد، تسير نحو الخمسة والعشرين بهذا النزق؟ من أين تأتي طاقة المواصلة؟ ومن أي عين تنبع الرغبة؟ وماهو الجمال؟ ما معنى الفرح؟ قررتُ ألا أضع في قائمة العام الجديد ما عجزتُ عن تحقيقه في العام الماضي، سأضع نقاط جديدة. ولن أضع أسئلة. سأكوم نتاج العام الذي يحتضر، في ورقة لم أعد أحتاجها، وأركنها في حجرة متطرفة لا يصل إليها سوى ممر معتم، يحتاج رفيقًا ومصدر إضاءة. سأرقص ليلة انتهاء هذا العام وأحتفل بموته بالسُكْر المحض. وسأكف عن التساؤل، سأكف عن التساؤل

Thursday, November 8, 2012

نشرة الأخبار



*  كُنتُ في زيارة لأمي. وأنا جالسّة على كرسيّ موضوع مباشرة تحت الضوء، مالت عليّ أمّي وهي واقفة لتخبرني شيئا. كانت عيناها واضحتين تماما، تشبهان عينيّ. وقلتُ لنفسي أن هذه أوّل مرّة ينظر فيها كل منّا لعين الآخر بهذا القُرب. لم أسمع شيئا مما قالته، ولكنني تسمرّت في مكاني، ثم غالبتُ دمعة لا أعرف سببها. كنتُ خائفة من نظراتها. كأنّها ستكتشف شيئا خبأتُه عنها. فكرّت قليلا، ثم وضحتُ لنفسي أن لا شيئا أخاف منه. ثم وضحتُ أكثر وقلتُ: أنا أكتسب عقدًا نفسية أكثر مع الوقت. صار لديّ الآن إحساس بالذنب، وخوف كالفطريّ ينبعان من اللا شيء.

* رأيتُ صديقا يضع رابطا لمدونتي في صفحته، ويصفها بأنّها من أجمل ما قرأ. فتحتُ مدونتي كالغريبة عنها، وقرأتُ ما كتبته عن نفسي طوال أعوام. كيف يحتمل أشخاص أن يقرأوا كل هذه الترهات، ولا يملّون؟ كل ما أكتبه عن نفسي مكرر. نفس الأزمات ونفس المفردات ونفس الأسلوب. نفس الحنق والملل. ما يتغيّر كل مرّة هو كميّة العبث والأسى الذي أشعر به نحو العالم. الأهم: كيف أحتمل أنا نفسي أن أعيد كل مرّة نفس الأشياء، وأدعي بفخر زائف أنني كتبتُ شيئا "جديدًا"؟

* دائرة الأشخاص الذين أعرفهم تقل مع الوقت. ودائرة المقربين تقل أكثر. ويبدو أنني اكتسبتُ مع اختلالاتي النفسية قدرة عالية على تنفير الجميع منّي. مرّة بالحدّة، مرّة بالتجاهل، مرّة بالنسيان، ومرّات أكثر لأسباب لا أعرفها. الجدير بالذكر هنا هو أنني لا أتعمد شيئا. أنا أترك كل شيء لاختلالاتي النفسيّة وهي تفعل ما تستطيع وأكثر. وتبهرني بقدرتها على فعل أشياء لم أعرف يوما استطاعتي إياها. مثلا: لا أرد على المكالمات. أنظر للهاتف وأتظاهر لنفسي أنني لا أسمعه. مثلا: أقترب من الفيسبوك بمعدل يقل تباعًا. مثلا: أرد بسخافة على أي محاولة للتقرب. وأنا فعلا لا أعرف سببا حقيقا يجعلني أفعل هذا.

* على الرغم من هذا، فإن أشياء صارت أقرب عمّا مضى. يعني، لو استثنينا الكتابة والكتب والموسيقى والنقاشات والأصدقاء والخروج إلى الشوارع وقراءة الأخبار والتواصل مع إخوتي والجلوس على المقاهي وحتّى الأكل –وهي كلّها أشياء ثانوية كما يبدو، بغض النظر عن كونها مفردات شخصيتي أصلا- نجد أن مفردات أخرى  أصبحت تلازمني أكثر مما مضى. مثلا: الصُداع، الدوار، آلام القولون، والضجر. لا يعنيني من هذه الأشياء فعلا سوى الضجر. لو أُضيف إليه الأرق، وطول أوقات الفراغ التام –تام بمعى الكلمة- يتحوّل الأمر لكارثة. مثالا بسيطا؟ الساعة الآن لم تتجاوز الثالثة عصرا. ولأنني نمتُ كل النوم الذي استطعته، فهذا يعني أنني وحتّى تُصبح الساعة الثانية عشر ليلا على الأقل لن أستطيع النوم مجددا. ما يعني بالضرورة تسع ساعات فارغة لا أعلم أي شيء عما يمكنني فعله خلالها. آه، إضافة أخرى: أحلامي صارت أقرب لكونها كوابيسا مفزعة لطيفة. أجساد حيّة متحللة وعليّ إحراقها، ودماء تلطخني، وعويل، وأشخاص مقربين أقتلهم بلا سبب. صار لديّ يقين لا أدري منبعه أن كارثة ستحل بالعالم قريبا، أو بي على الأقل.

* عموما عموما، أنا بخير فعلا. نوبات بكائي برغم أنّها صارت أقسى إلا أنّها أقل. أتصالح مع يأسي ومللي بدرجة أكبر. أكتسب مهارات التحديق في السقف وفي الحائط وفي أرضية المترو. أتعلم أن أقضي ساعات وأياما بدون فعل شيء، أي شيء. أصبحتُ أقل فزعا من الأحلام، وأكثر تصالحا مع الوحدة. وقريبا سأنهي المأساة وأتصالح مع الضجر. أنا أحسن فعلا. هدأ كل الغضب والثورة والانفعالات الزائدة، نعم حلّ محلهم الركود. لكن من يدري، ربما كان الركود أحسن فعلا. ومن يدري، ربما أستطيع يوما تحقيق حلم حياتي، وأتصالح مع العبث. 

من يدري فعلا؟

Tuesday, August 14, 2012

إن كان لكل أزمة كلمة مفتاحية، سأختار هذه المرّة "الخذلان". وإن كان لي أن أختار شعورًا واحدًا مسيطرًا، سأختار "نغزة القلب".

Sunday, August 12, 2012

No answer

عندما استيقظتُ هذه المرّة كنتُ أعلم أنني لن أستطيع النوم مرّة أخرى. كنتُ قد حلمتُ أن في جانب السرير، الذي افترشتُه عارية، ذراعًا إن استطعتُ الوصول إليها سيطير بي السرير خارج هذا العالم. تأملتُ سقف الغرفة قليلا، لا أرى شيئا في العتمة. قمتُ. خرجتُ من غرفتي فاكتشفتُ أنني وحدي تماما في المنزل. وأنني لا أعرف -أو لا أتذكر- أين الباقون. قررتُ أن لا داعي للاكتئاب. جربتُ الاتصال به، كنتُ سأخبرهُ أنني أحبه، لم يجب على اتصالي. لففتُ الشقّة عشر مرّات، قبل أن أستوعب أنني اكتئبتُ بالفعل. لو انقطع النور الآن، لا أضمن رد فعلي. أشعلتُ سيجارة، طعمها سيء، أطفأتُها. أخرجتُ طعاما من الثلاجة، رائحته سيئة، رميتُه. دخلتُ البلكونة، أعدتُ الإتصال، no answer، خرجتْ. استحممتُ، وكان جسمي باردًا، ارتعشتُ من مواجهة الهواء. تحسستُ الحبّة التي نمت تحت عيني، تغلق عيني وتجعل نصف الصورة غائبا طول الوقت. تأكدتُ أن أحدًا لم يتصل بي. لا أحد. أشعلتُ سيجارة أخرى، وأطفأتها. أفكّر في البحث عن سكينٍ. أتجاهل الفكرة. أدخل البلكونة. أفكّر في أن أطير خارج المنزل. أتجاهل الفكرة. أتأكد من الموبايل مرّة أخرى. لا أحد. الوحدة والغربة وهذه الأحاسيس، ليست قابلة للعلاج. ستهاجمني في أي لحظة أتفرّغ فيها وحدي لمواجهة العالم. أرجيء البكاء. أرجيء البكاء. لا ليست الأصوات. لا تحدثيني الآن. يرتفع صوت ضجيجها. أبحث عن السكّين. أفكّر أن أغرسه في الحبّة تحت عيني، أقترب بشدّة من المرآة، يرن الموبايل. أمّي. تسمعني كلامًا لا أتذكرّه. تتبخّر فكرة السكّين. لا رسائل ع الفيسبوك. الأصوات. الأصوات. أدير مقطعا موسيقيا، أرفع درجة الصوت لأعلى درجة. الصداع. الحبة تحت عيني. أين ذهب السكّين؟ أريدُ سيجارة. أريد أن أتكلّم. أنا خائفة. فعلا. ولا أريد أن أبقى وحدي. لا أحب ذاتي. ولا أحب العالم حين أواجهه وحيدة. العالم قبيح. العالم موحش. العالم مزيّف. وأنا وحدي. أنا وحدي. ومهما أوهمني القلب أنّه امتلأ، سأظل وحيدة. والعالم لا يسمعني. أنا أحدّث نفسي، وأجيب. ولكنّ لا إجابة مرضية تأتيني من الخارج. ولا من الداخل. لماذا لا أنتهي؟ مرّة واحدة، وللأبد؟ سأبكي الآن.

Sunday, August 5, 2012

ما بعد النقاهة

مرّت النوبة بسلام هذه المرّة أيضا. ربما لم تمر تماما، ولكنّي أحسن كثيرا. وكعادة نهاية كل نوبة، أعترف لنفسي أنني أحسد المبالغين الدراميين على قدرتهم على الاندماج والتماهي. أحسد أصحاب القضايا على قضاياهم. أحسد هؤلاء الذين أحتقر جهلهم، لأنّهم يصدقون علمهم، وهؤلاء أصحاب الكليشيهات، لأنهم يعيشون كليشيهاتهم ولا يقيمونها. أحسد من يستطيع الإمساك بلحظة مضت، ليؤكد تفاؤله بالقادم. أكرر لنفسي، أن الوحدة ليست أن يبتعد عنّي الناس. الوحدة/الغربة أن يقترب الناس جدّا، أن أصدق أنّهم صاروا منّي، ثم أعي في يوم، أنني خدعتُ نفسي. أن مشكلتي في الإحساس واقعة.أن المشكلة ليست فيهم، بقدر ما هي في أنا ذاتي. وأن المأساة ليست في انكشاف زيفهم، بقدر عدم اهتمامي أنا بهذا الانكشاف. أن الأشخاص الذين يبتعدون، أو أبتعد أنا عنهم، لم يكونوا مؤثرين لهذه الدرجة. أعترف لنفسي أنني أملّ، أن الضجر من سماتي الأساسية، وأنني لن أمشي طريقًا لآخره لأنه سيقف لي عقبة فيها جميعا.

الاهتمام مرهونٌ بالصدق، ومضادّه الادعاء؛ وليست اللا مبالاة. اللا مبالاة لا تنتمي لهذه الاحداثيات. يمكنني أن أهتم فعلا، أو أن أدعي اهتمامي؛ لا مبالاتي هي التي ستخرجني دائما خارج هذه الدائرة، وتلقي بي في دوائر الأسئلة الوجودية وتغييرالوجوه والأنماط والأماكن، في بحث محموم عن شيء لا أعرفه سيجعلني أبالي فعلا في يوم.


أقول لنفسي أن الحب رائع. أن الغربة تزول بين ذراعيه، وأن العالم يصبح جميلا فعلا في وجوده. ولكنّي أعود فأعي حقيقة أنه ليس جميلا في الخارج. أن الحب مسكن رائع لآلام العالم القبيح الموحش الذي لا يلائمني، ولكنّه لا يستطيع أبدا مهما أوتي من قوّة أن يعالج هذا القبح، وهذه الوحشة. وأن أي علاقة مهما بلغت قوتها لن تستطيع شيئا أمام مكان وظروف لا تحتويها. أن حربي مع العالم ستستمر، لأن تصالحي مع عدم استعداده لأن يُحَب، تبدو لي فكرة مهينة، ومميتة.


لا داعي للانزعاج، أنا فعلا أحسن كثيرا. تراجعت كأي طفل يحترم نفسه عن قراري بعدم التدوين. ولا زالت لديّ القُدرة على الضحك، التقاء أناس جدد، وتحديد مواعيد مع أصدقاء قدامى. لم يخلُ قلبي من الحُب، والبهجة. وما زلتُ أحتفظ بحيوات كثيرة، أنوي أن أعيشها جميعا.

Monday, July 9, 2012

تدوينة قد تكون أخيرة

اخترتُ الكتابة عن نفسي في هذه المدونّة لأسباب ليس أولّها الرغبة في الكتابة ذاتها، ولا آخرها الرغبة في الكتابة عن ذاتي. ولكنّ أهمها، أن الكتابة على المدونة تعفيني من البحث عن شخص لأحكي له، وأحملّه كل هذا. نجحتُ. على الرغم من أنني كذبتُ كثيرا على أصدقاء سألوني عن نصوص كتبتها، وادعيتُ أنّها "مجرّد كتابة". وعلى الرغم من أنني فضحتُ نفسي لأشخاص أكثر، لكنهم بقوا بعيدين بما يكفي لتجاهلهم.

بعد آخر تدوينة، جاءتني من بعض الأصدقاء ردود فعل جعلتني أعيد التفكير. قالت لي صديقة "حزنك بيبقى تقيل أوي ياسميّة"، ورأيتُ كيف تغيّر وجه صديق بعد أن قرأها. تألمتُ أكثر لهذه الفكرة. وسألتُ نفسي "كم شخصا آذيتُ؟" قررت ألا أحدّث أحدًا في كآباتي، قررتُ ألا أشرك أحدًا في أزماتي الوجودية الحادّة، قررتُ أن أكون شخصا هادئا، مرّ على الدنيا في سلام، ورحل. قلتُ لنفسي: "إذا كان كل شيء ينتهي، مهما طال، فلا داعي لإقحام الجميع في تفاصيل حزينة، قد لا تمسهم بالشكل والقدر نفسه، ولكنّها تحزنهم، إمّا لوجود حزنٍ كهذا، أو لتعاطفٍ معي بصورة من الصور". التزمتُ بعهدي. لا أذكر شكوى شكيتُها، على الرغم من أنّها لم تكن أيامًا هادئة كما تصوّر الجميع. كانت ليالٍ طويلة، تخللتها دموع كثيرة. كان خوف لا أدري مقرّه يراودني عن نفسي. كانت كلماتٌ تطفو دائما وتلح عليّ لأسجلّها، ولكنّي لم أستجب. لا أستطيع أن أكون شخصًا ثقيلا. لا أتحمّل فكرة أن أفسد أيام الآخرين، مهما كانت درجة قربهم. لذلك سألتزم بعهدي، سأجلس ما أتيحت لي الفرصة لإسعاد الموجودين، وخفيفة سأرحل متى شعرت بثقلي. سأحتفظ بحزني لنفسي، وليس في هذا أي نُبْل. ولكنّ البشر مختلفون، ومنهم من يجد البكاء وحيدًا، أقل وطأة على نفسه.

لا أعرف ما ستحمله الأيّام القادمة. لا أعرف إلى أي مدى سأنجح في الكتمان وتحمّل البعد والوحدة. ولا أعرف إلى أين ستأخذني أفكاري ورأسي الذي لا يهدأ. على أية حال، كانت أيامًا سعيدة.

Sunday, June 24, 2012

إدراكات ما قبل الامتحان بساعة واحدة

اليوم صباحا، كنت في طريقي للجامعة، أستمع لأغنية لطيفة، أقنع نفسي أنني بخير، وأن مشكلاتي مع الوجود مشكلات عبثية ستزول بمجرد النزول ومقابلة الأصدقاء والثرثرة عن الأشياء ليست ذات الأهمية. أنني شخص يمتلك كل مقومات الحياة السعيدة، فلا داعي للـ "أفورة".
ركب معي الميكروباص شيخ كبير في السن، كبير السن لدرجة مؤسية. رأى الأوتوبيس الذي يريد استقلاله قادما من ورائه، فطلب من السائق أن يشير له، وأن ينزل ليركبه. تعاطف معه سائق الميكروباص، وسائق الأوتوبيس، وتوقفت الحياة قليلا، وتوقف كل شيء يدور في رؤوس الحاضرين للموقف. صار لنا هدف واحد: أن ينزل الرجل، أن يركب الأوتوبيس، وبأقل خسائر ممكنة له. "على مهلك ياحاج" "براحتك". شخص مد له يدًا لينزل، وآخر يمد يده ليصعد. نجحت المهمة، واستراح الجميع. وأنا تمتمتُ في سرّي "كويّس". ثم فكرّت أنني لا أتعاطف مع الأطفال إطلاقا، ولكنّي أتعاطف مع كبار السن لدرجة ملحوظة. ولاحظتُ أن اهتمامي به كان غير عادي. كنت أراقبه منذ ركبتُ، ارتعاشة يده، ذهنه البطيء، الخوف في عينيه، الألم الذي لا يزول من وجهه، وكل هذه التجاعيد. راقبتُ صعوده، وراقبته من نافذة الميكروباص حتّى جلس على كرسي، وعادت الحياة المتوقفة. ثم دمعت عيني. أنا مشكلتي في الحياة ليست الوجود، لا يهمني الأسباب التي جئت من أجلها. أنا أخشى النهاية. لا أريد أن أكبر. لا أريد أن أصبح عجوزا. عدم تفكيري في أشياء محددة كالزواج، والعمل والأحفاد، والتي قلت عنها في التدوينة السابقة، ليس منشؤه عدم اهتمامي بها، ولا عدم توقعي لها؛ إنّه خوف منها. مارس عقلي الباطن ميكانيزم الدفاع بكفاءة، فلغى كل هذه الأفكار. قلتُ لخطيبي بعد الخطوبة بوضوح: "أنا مش عايزة أكبر، مش عايزة ألبس لبس الناس الكبار، وأتكلّم زيّهم .. أنا عايزة أفضل أتنطط، عايزة أفضل أعيش نمط طالب الجامعة للأبد". أخشى ذهاب نضارة الشباب، أخشى أن أصحو في يوم بألم في عظامي، ليس له سبب سوى الشيخوخة. أخشى أن أصاب بالضغط والسكّر وأمراض القلب، وأعتبره أمرا عاديًا في هذه السن. أخشى أن أموت. ليس حبًا في الحياة، وأنا أعنيها. ولكنّي أرتعب من العجز، وأرتعب من المجهول. لا أقول أنني إذا احتفظتُ بشبابي سأمارس حياة الشباب. أقول فقط، أنني لا أريد أن يشيخ جسدي فيعجزني. لا أستطيع التصالح مع فكرة أن هناك أشياء لا يمكنني القيام بها لأن سنّي لا يسمح. قفز إلى ذهني مباشرة نموذج جلال في الحرافيش، فارتعشت، وانتفض جسمي انتفاضة مخيفة بتذكّر المئذنة. قلتُ أن قسوة وجودي أنّه سينتهي. وقلتُ أن من قسوته عدم وجود طريقة لايقاف الزمن. وأدركتُ أن اكتئابي وخوفي من التغييرات المتوقعة لحياتي في الفترة القادمة ليس سببهما الخوف من هذه الأشياء في ذاتها؛ ولكن خوفي من كون هذه التغييرات تجعلني أكبر. تجعل نمط حياتي أكثر استقرارا، نمط الكبار وليس الشباب الذين يقفزون بين كل الحالات بلا خوف. ثم فكرّت أن من المؤسي أن هذه فكرة "كبيرة". هذه من أفكار كبار السن، لأن الشباب على العكس يعيشون بدون التفكير في هذه التفاصيل بهذه الهيستيريا. الشباب يرتبط بالانطلاق، بالآفاق المفتوحة، بالرغبة في تجربة كل شيء. وهم لا يبدأون في التفكير في انتهاء الحياة إلا عندما يحققون ما يريدونه منها. هذا الرعب الهيستيري من الموت ليس ملائما. وإمكانية بناء مئذنة تخلدني مستحيلة. والخلود في الأبناء، في الإبداع، في السيرة الطيبة أشياء ليست ذات معنى واضح لي. أنا أنانية جدّا في هذا الشأن. أريده لنفسي، ولا يهمني أي مما يحدث بعد موتي. أريد على الأقل أن أعرف أين سأذهب. "المغرور ببقاء النسور" لقمان، عاش أعمارًا سبعة، فملّ. وعندما وصل للحياة السابعة كان أدرك حتميّة الموت، كان زهد الحياة، فأنهاها بنفسه. وأنا لا أريد عمرًا طويلا، أريد عمرا نضرًا. وأعرف جيدّا أنني كنتُ أعني تماما ما أقوله بـ "هنتحر قبل ما أعجّز". ستكون اشكاليتي الوجودية هذه الفترة أن أتصالح مع الموت، إذ يبدو لي التصالح مع الهرم مستحيلا. سأتصالح مع الموت وأنتحر بمجرد اقترابه.

ملحوظة جانبية: العلاقة الجدليّة بين رباعيات صلاح جاهين، وانتحاره، وسعاد حسني، وانعزالها ثم موتها المريب، من الأشياء التي يجب تجنبها تماما، أو الانغماس فيها بشدّة؛ لن يمكن أبدًا التعامل معها بحيادية، ولا الوقوف على مسافة منها.

Friday, June 22, 2012

الموسمُ الأخيرُ للسأم

أذكُر المرّة الأولى التي نزلتُ فيها للبحر.شعرتُ بالشغف. الرائحة، الصوت، الإحساس، التجربة الطازجة. سعدتُ بـ "خفتي". غافلتُ أهلي، وتخطيتُ الحاجز الذي رسموه لي. سرتُ قليلا، ثم زلّت قدمي على رمال منخفضة. لم أقع، فانتعشت. قلتُ خطوتان أخريان، ثم سأجرب أن أغمس رأسي في الماء وأعد. عندما وضعت رأسي تحت الماء، أغمضتُ عيني، وسددتُ أنفي، وبدأت العد. سرت خطوتين أخريين، فزلّت قدمي في رمال أخرى. وقعت هذه المرّة، وكان الموت قريبا. جذبتني يد طفلة في مثل عمري، ونظرت لي بقلق. قلتُ لها أنني كنت ألعب. أنني لم أكن على وشك الموت. أن كل شيء رائع. ثم جريتُ من أمامها.
الآن، وأنا أتذكّر هذه التجربة، أعي أنني كنت أعرف طوال الوقت أن الموت قريب. أنني انشغلتُ بشغف التجربة، ولكنني نسيت أشياء فذهبت مني للأبد. أنني على جرأتي هذه، لم أفكر يوما في تعلّم السباحة. تركتُ نفسي للموج، وللرمال المنخفضة. وسمحتُ في كل مرّة ليد ما أن تنتشلني. يد لا أعرفها، أجري من أمامها في رعب.

لم أطبّق أبدا نظريّة "كل الأشياء السيئة تحدث للجميع عدا أنا". كنتُ أعرف أنني ببساطة يمكنني أن أصبح مدمنة، ببساطة قد تصدمني سيّارة، ببساطة قد أرسب في امتحانٍ ما. ولكنّي لم أهتم. كان يقين ما يملؤني، ويدفعني للمواصلة. يقين أن هناك أشياء لم أرها، أن العالم يفتح ذراعيه لي، أن براح الكون لن يسع براح قلبي وعقلي.
لم أتخيل أبدا أن شيئا لن يحدث لي ..

ولكنّ برغم هذا اليقين الذي كان، هناك أشياء لم أتخيّل أبدا أن تحدث لي. مثلا، لم أتخيلني أبدا عجوزا، لديها أحفاد تربيهم وسعيدة في حياتها. لم أتخيلني متزوجة أصلا. لم أتخيلني أعمل في وظيفة بمواعيد وأمارس حياة روتينية. لم أتخيّل أن أحدًا من أفراد عائلتي سيموت.  هناك أشياء لن تحدث .. ولكنّ مؤخرا، ظهرت لي صورة تأتيني كثيرا في أحلام اليقظة والمنام. تخلط بين المتوقّع والمرجو. لا أنكر أن فيها رغبة. أراني منزوية، في أركان بيتٍ ما. بإضاءة خافتة. ووحيدة. أجلس مقرفصة على كرسي متطرّف، وفي يدي زجاجة فودكا، وأمامي علبة سجائر. أشرب وأدخن، ولا أتكلّم. سيأتي الشخص الأقرب إليّ، سينزعج، سيشعر بالعجز، ويرغب في مساعدتي، ولكن لن يستطيع. سيحاول احتضاني، ولكنّي سأذوي بين يديه. تبدو الصورة أقرب إليّ يوما عن يوم.

الجرح الذي جرحته لنفسي منذ يومين، بدأ يلتئم، ولم يعد يؤلمني. الألم البسيط الذي كان يشغلني التفكير فيه طول الوقت عن التركيز في كل شيء، ذهب؛ فعادت التفاصيل الكثيرة تزعجني. واليوم فقط، عاد السأم. سئمتُ كل شيء. سئمتُ التفاصيل المزعجة، سئمتُ البشرَ، سئمت الأسئلة. سئمتُ الموسيقى والكتب والأفلام. لم أعد أريد فعل شيء. سئمتُ المناهج المتخلفة، الحفظ الذي هو سمة كل شيء، النظام التعليمي الذي يقتل أي رغبة في التعلم الحقيقي. سئمتُ الزملاء، وسئمتُ الأصدقاء، وسئمتُ البشر العابرين في الشوارع. سئمتُ الطرق المزدحمة، والضوضاء التي لا تنقطع، أغاني الميكروباصات التي تمنعني من اختيار ما أرغب في سماعه، أضواء المحلات المؤذية، أعداد البشر التي لا تُحتمل، والبشر الذين يقتحمون حياتي بدون إذن. سئمتُ جسدي الذي لا أستطيع تحريره دون أن يتطفل عليه أحد. سئمت كُرهي له، وكرهي لنفسي، وسئمت الأعين التي تحاول اثبات العكس. سئمتُ الرجال، والأفكار الذكورية، سئمتُ المتحرشين، والمتحرش بهم، سئمت النقد والتعليق. سئمتُ الغباء والعقول التي لا تريد التفكير. سئمتُ الأديان، والآلهة، والمؤمنين بهم. سئمتُ رغبات الجميع في فرض نمط يرتضونه عليّ. سئمتُ عقلي، الذي يوهمني طوال الوقت أنّه يعرف، ثم يصدمني فجأة بأنني لا أعرف أي شيء. سئمتُ تكرار نفس الشوارع، نفس البشر، نفس الكلام، نفس كل شيء. سئمتُ المشاكل المُدركة حلولها، ولكنّها مستحيلة. وسئمتُ عدم قدرة العابرين على تقبلي. سئمتُ الأموال، وذل الحاجة إليها، وهوان طلبها. سئمتُ عبث الوجود في ذاته، عبث ألا تصب حياتي كلّها في هدف نهائي. سئمتُ الثورة والسلطة والسياسة والمظاهرات والبيانات والتكذيبات والجنسيات وجوازات السفر وتصريحات الإقامة. سئمتُ ايمان الناس بأشياء لا تستحق. سئمت الوطن، والعائلة. سئمتُ العالم بأكمله. سئمتُ القراءة، سئمتُ حتّى الكتابة. لا جديد تحت الشمس. وسئمتُ الأسئلة التي لا إجابة لها.

أفتقدُ أياما، كان قلبي فيها مؤمنا، وعقلي مصدقّا.

حلمتُ أنني طائر صغير، وضعته أمّي في قفص صغير، ليس له باب. أدخلتني من بين عواميده. ثم تشاجرتُ معها، فرحلتْ. كان بإمكاني أن أخرج مثلما دخلت، ولكنّي انتظرتُ. كبرتُ فجأة. ولم يعد باستطاعتي الخروج من بين الفتحات، وجسدي العجوز لن يحتمل دماء جراح جديدة. لقد صرتُ "ثقيلة" جدّا. هل أنا المسؤولة، أم أمّي؟

يبدو أنني جلستُ في قفصي وحيدة أكثر مما ينبغي، فوضعتُ نظريات كثيرة عن الطيران، ولم أنفذه مرّة واحدة. وفي أعقاب هذه الجلسة، شعرتُ بالملل. سئمتُ كل النظريات التّي لا تجعلني أتحرك قيد أنملة عن وضعي الحبيس، النظريات التي تزيد من قسوة الحبس. وتزيد الملل. 

أريد أن أتحرر من هذا العالم، حقّا وبصدق هذه المرّة. أريد أن أتحرر منه مرّة واحدة وللأبد. ولكنّي أفتقد جرأة من لم يجرّب التحليق أبدا. لذا سأكتفي بأن أحقق صورتي المتخيلة عن نفسي. أن أنزوي في أحد أركان حجرة، أشرب، وأدخن، وأفكر في عبث الحياة وقسوتها، فيما يحاول حبيبي احتضاني، فيفشل.

Tuesday, June 19, 2012

بحث عن نقطة تنوير


عالجتُ ألم صدري من السجائر، بالمزيد من الدخان. جربتُ الشيشة بأنواعها، والحشيش. وكلما آلمني صدري أكثر، بحثتُ عن نوع أثقل من الدخان. كلما اكتئبتُ، بحثتُ عن أسباب أكثر للاكتئاب. من داخل كل مرحلة للاكتئاب، أفكّر بتجرّد: أنا أريد أن أتخلص من هذا الألم؛ ليكن بالمزيد منه. يذهب ألم المرحلة، وأغضُ النظر عن أنني استبدلته بمرحلة أعلى منه. عموما، الحياة هي تراكم الآلام، حتّى المرحلة التي يُصبح فيها الألم غير محتمل. عندها، سأموت، أو أتحرر. والكآبة ليست بالضرورة مسببة، الكآبة غربة وغرابة. الكآبة أرق وعدم قدرة على التصالح. الكآبة في أصلها غير مسببة. الأسباب تُدرَك، ويمكن معالجتها. الكآبة لا. الكآبة أصيلة. والحُزن كلمة لطيفة، أصيغ بها الكآبة في صورة أهدأ لأحبّها. الكآبة ترقد بعيدا، في طبقة غير متناولة من الروح. قد تمتد السعادة لآخر طبقة قبلها، ولكنّها تظل هناك، لا يمكن النفاذ إليها. قد نتصالح بقدر ما يتاح لنا التصالح، قد نبحث عن الخلاص. ولكن هناك بعيدًا، تراقب الكآبة ساخرة كل محاولات الخروج من العتمة. وتزيدها. وكلما حلقتُ بعيدا عنها، شدتني بالخيط الذي تملك طرفا منه، وطرفه الآخر مربوط في رقبتي. كلما طرتُ، أرخت لي الخيط، حتّى إذا ظننته الخلاص، وأوهمتُ نفسي أن الخيط هذه المرّة انقطع بالضرورة، تجذب جذبة واحدة، فأقع محطمة. وأبدأ من جديد. وقدرتي على البدء من جديد، أستخدمها، ويستخدمونها أحيانا، في الاقناع بوهم القوة. ليست قوّة؛ عبث. أنا هنا، وليس من بديل. تشد الخيط بنص، بفكرة، بجملة، بنظرة. هل سأعزل نفسي عن العالم لأتحرر منها؟ هل سيكون هذا تحررا؟ صرتُ أستخدم علامات الاستفهام بدلا من النقط. وعلامة الاستفهام قويّة وجبارة؛ لا توحي بما توحي به النقطة من الاكتمال، علامة الاستفهام لا يمكن اتباعها بنقطة. ستظل علامة استفهام، وسيظل لزاما عليّ أن أبتدأ جملة جديدة بعدها على عدم اقتناعي بانتهاء الجملة الأولى. تُغريك بالنقطة تحتها، فتنسى استدارتها، والخيط الذي تمدّه نحو هذه النقطة. علامة الاستفهام قادرة على ابتلاع النقطة في أي لحظة. علامة التعجب على عكسها، مبهجة، مبهرة؛ والعالم ليس مبهرًا، العالم ممل وموحش. حتّى وإن كانت لا توحي أيضا بانتهاء الجملة؛ إلا أنّك تعرف أبعادها، وترى حدودها جيدّا، ليس منها خطر. علامة التعجب ستثيرك. وتحاول أن تثبت لك أن في العالم ما يستحق الانبهار. وعلامة الاستفهام ستبتلع هذا التعجب عاجلا أم آجلا. لا أذكر آخر مرّة استخدمتُ فيها علامة تعجب عن قناعة. ربما لضرورات كتابية، ولكنّي لا أستطيعها. أما انحناءات علامات الاستفهام المراوغة، فستظل هناك، مع الكآبة ترقد بعيدا. كلما تعلقت في آخر علامة التعجب، شدتني إليها. في الصباح، جرحتُ يدي بالموس، وفيما كنتُ أرقبُ الدم الذي كلما مسحته، يعود من جديد، وأوهم نفسي أنني جُرحتُ بالصدفة وليس عمدًا، قررتُ أن أغيّر إجابة "إزيّك؟" وأجعلها "أحسن ما يمكن" بدلا من "كويسّة". إذ أن الحقيقة تقول أن هذه هي أفضل حال، ولكنّها ليست السعادة في مطلقها، ولا داعي للايهام في سؤل بهذه الأهميّة. الوهم. الوهم. والعجز غير المبرر عن الفهم. إن كنتُ هنا، وهذا واقع، لما يجب عليّ ألا أفهم؟ ألا يمكنني أن أكون هنا، وأفهم في ذات الوقت؟ البقاء. البقاء. والسعادة كلمة مبتذلة لم يعد لها معنى من كثرة الانهزامات. في نهاية كل محاولة، أجلس هناك وحيدة مع الكآبة، ينظر كل منا للآخر ولا يدري ماذا يفعل بالآخر. أدير وجهي، فيما أعرف أنّها موجودة، أعترفُ لنفسي مجددا بالعجز عن الرحيل، وأبدأ في البكاء.

Monday, June 18, 2012

الحب والقسوة، أم كلثوم والقصبجي مثالا.

في النهاية ياصديقي، لن نستطيع لوم أم كلثوم لأنّها كانت قويّة. ولن نستطيع لوم القصبجي لأنّه أحبها. نحن في النهاية مجرّد قارئين لتاريخ حدث، ما قيمتنا الفعليّة من الحدث؟ وماذا تفيد أحكامنا الأخلاقية على الأموات؟ لقد اختار كلُّ منهم، بوعي أو بدون، الطريقة التي يُريد أن يعيش بها. وعاش بها ثم مات. أم كلثوم اختارت أن تكون الأقوى، اختارت أن يكون لقلبها قوّة صوتها. والقصبجي اختار أن يكون رقيقا، اختار أن يكون لقلبه رهافة ألحانه. ونحن؟ نحن اخترنا أن نسمعهم. واخترنا أن نحكي الحكاية لكل من نعرفهم كلما جاءت السيرة. اخترنا أن نلوم أم كلثوم، لأن أحدًا لن يستطيع أن يتحمل لوم القصبجي. أنا اخترتُ أن تكون ام كلثوم عدوتي التي أعشقها. اخترتُ أن تقتلني أغانيها وتحييني في كل مرّة. واخترتُ أن أحب القصبجي حبًا غير مشروط. واخترتُ أن تكون "ما دام تحب بتنكر ليه" أغنيتي المفضلة على الإطلاق. وكلها اختيارات عبثية كما ترى؛ لن تغير مما حدث أي شيء. فلا لومنا لأم كلثوم سيرقق قلبها على هذا المرهف، ولا لومنا للقصبجي سيثنيه عن رفض هذا الذل. لقد أحب القصبجي أم كلثوم، وكان لأم كلثوم من القوة والجبروت ما يجعلها ترفض هذا الحُب الخالص. وكان لها من القدرة على التجاهل أن تعتبر كل هذا لم يكن. عاقبته على إخلاله بحبه الذي رفضته، فقبل هو بالعقاب. مالنا نحن وكل هذا؟ لماذا لا أستطيع التركيز في الأغنية الجميلة وانتهى؟ ولماذا أشعر بكل هذا الأسى ناحية القصبجي، وكل هذه الكراهية ناحية أم كلثوم؟

Saturday, June 16, 2012

والحُزنُ أبقى

كلما تجاهلتُ الجراح، صار طريق الشفاء منها أكثر وعورة. تعوُّدُ الألم يجعله أكثر إهانة. الحُزن أصفى. الحزنُ أرقى. الحُزن أهدى. وأهدى منها الهدوء، ومنها الهداية. الغضب مقابل الحزن. الحزن من الوحدة؛ أنين الزاي لا يستطيعه المتألمُ إلا وحيدًا. الغضب علاقة ثورية تستلزم أطرافًا. 
كلما تجاهلتُ النصال، واعتدتُ الألم، زاد عُمق الجرح. الوحدة مُدرَكة، الوحدة مُدرِكة. والاهتمام ليس مقابلا للتجاهل؛ ولكن للرؤية. أن أرى >> ألا أتجاهل. أن أهتم >> ألا أبالي. النصال المتزايدة تُزيدُ الثقوب، والثقوب تزيد الحسرة. والحسرةُ مصدرها العجز. 
وأنا حزينة ووحيدة. أداوي الحُزن بالغضب؛ فأبتذله. وأداوي الوحدة باللامبالاة؛ فأملُّ. وأكتبُ كيلا أموت. أكتب سعيا للاحتواء .. أكتبُ سعيًا للاستمرار.

Sunday, June 3, 2012

فوران القهوة

إلى دينا صبري

ما احناش قد البعد، لكن عليه مغصوبين. إنما الجراح هي اللي مش قدنا. بلاط الحسين بيفرّح، والكشري بيضحّك. تفاصيل إبراهيم أصلان كانت بتشاور ع الجاي. وبراد الشاي بيطرّي في الصيف، ويدفي في السقعة. كان تصوير، وكنّا بنشوي، وكانت بهجة. الود موصول ما دامت الذكريات. وهزة القلب اللي بيكِ اتثبتت مش مستنية سماعة باردة تحكيها. الحوجة مش دافع، لكن يمكن الحلويات تكون. والأخضر في عيوني يوم ما الحب اتأكد، ما بيّنهوش غير أخضرك فوقيها. غنانا هيكمّل دايما، وجملنا المبتورة هيفضل ليها معنى. يشهد عليها أسانسير حزب في عمارة، وكاكاو على قهوة كان طعمه وحش، وكبدة من على عربية متطرفة. كتابة على ضهر باب ما  يفهمهاش غيرنا، وحاجات في الروح متخزنالك، مستنيّة طلتك عشان تنكتب. اعترافاتنا بحزن مدشدش العضم، بترممه وتحييه. القلب يستحمل أسيّة، بس ما يستحملشي القلب. والروح معاكِ بتلضم المنسي باللي لسّه ما جاش. كانت فرحة، وهتدوم، وكان رجا في اليقين، لسّه ما اتعورشي.

Friday, June 1, 2012

عن شادية وأم كلثوم وآخرين

سعاد حسني ستكون صديقتي التي ألقاها وسط تجمعات كبيرة من الأصدقاء، وتضحك حتّى نكاد من فرط البهجة نطير. وسألقاها وحدها على فترات بعيدة، صدفة غالبا، لنشكو قسوة العالم. صباح ستكون الشخصية التي أعرفها من بعيد، نسلّم سلاما متحفظا إذا وضعتنا الظروف معًا. سأسمع أغانيها بتحفظ مماثل، وسيشعرني وجودها دائما بعدم أريحية. سأحب أغان كثيرة لها، ولكن لن أجاهر بهذا الحب أبدا كما سأفعل مع أغاني سعاد حسني، التي سأستخدمها معظم الوقت لأقول أنني لا أغير منها، وأنني شخص سعيد ورائع، وأن الحياة مكان جميل. سأكره عبد الحليم حافظ حتّى الموت، وسأتجنب الحديث عنه معظم الوقت، وسأتجنب الأماكن التي يذهب إليها. ولن أسمع أغانيه إلا مضطرّة، وسأنكر بشدّة أن تكون إحداها تعجبني، حتّى لو حدث. سأتحدث عن عبد الوهاب بإكبار، وسألتزم الأدب والصمت في حضوره. سأقبل يد القصبجي كلما رأيته، وسأحاول أن أتقرب منه. سأزوره في بيته كثيرا، وسآخذ له الشوكولاتة وزجاجات الآي دي بطعم البطيخ وسيديهات لأغاني لينا شماميان، فيروز كراوية، وأوكا وأورتيجا.  قد أحب محمد فوزي، ولكنّي سأتجاوز حبّه سريعا، وسنظل أصدقاء أوفياء. وسنلتقي بانتظام ولكن على فترات متباعدة. سأحضر جميع حفلات محمد عبد المطلب، وسأجلس في الصف الأوّل أراقب تعبيرات وجهه. أما سيّد مكاوي، فسأكون عضو دائم في شلة هو مركزها، تجتمع يوميا. سأغني معهم وأشرب وأضحك، ولكنّي إذا اكتئبت، سأتغيّب، ولن أرد على مكالماته. ليلى مراد ستكون صديقة محببة، لا أكره وجودها، ولكنّي لا أبحث عنه. وجودها سيسعدني، وسأحب تسريحة شعرها، وضحكتها. وسأطلب منها في كل مرّة أن تغني لي شيئا. وسأغني معها، وهي لأنّها ستحب غنائي، سترحب بمشاركتي، وستترك لي كوبليهات كاملة أغنيها وحدي. أما صديقتي المقربة ستكون شادية. سيقول الناس عننا دائما أننا متطابقتان. شادية ستكون رفيقتي الدائمة في كل المغامرات المتخلفة التي سنقوم بها. مثلا، سنذهب سرّا إلى فرح شعبي في أدغال امبابة على أننا راقصتان. مثلا، سنكون أنا وهي فقط الذين نعرف بأمر البار الحقير، الذي سنشرب فيه حتّى تمام السُكر، وسنبحث عن أي رجل يقلنا إلى البيت، في محاولة لتمثيل قصّة فيلم رخيص على أرض الواقع، ثم سنموت من الضحك حين نتذكر في الصباح. سنعيش سويّا، وسنضحك على كل شيء، ولكننا سنعرف جيدّا ما هو الحزن. سيكون حزنُنا موتًا، وفرحُنا جنونًا. سنقرر أن نتعرف على ولد وسيم أثناء السفر، وأن ندبّر مقلبًا محترمًا ضد فايزة أحمد لأنّها "واخداها جد زيادة عن اللزوم". ووحدها شادية ستعرف بشغفي بأم كلثوم. سيظن الجميع أن أم كلثوم عدوتي اللدود. وستكون فعلا. على الرغم من أنني سأعشق كل حرف تغنيه. وسأذهب إلى حفلاتها سرّا أنا وشادية متنكرتين، وسنجلس بعيدا عن دائرة نظرها. سأسمعها دون أن أنظر إلى وجهها. وسأكتفي بمراقبة القصبجي الجالس وراء أم كلثوم يعزف ألحان غيره. سأسب أم كلثوم في سرّي وفي علني. وسأعترف لشادية فقط أن أغانيها حلوة لدرجة غير محتملة. وسآتيها برواية كونديرا، ثم بعد أن تنهيها سأخبرها أن أم كلثوم ثقيلة ثقل غير محتمل، وأن القصبجي خفيف خفّة مؤلمة. ثم سننتبه أننا "قلبناها نكد"، فندير "أنا شارب تلاتة ستلا" وسنرقص حتّى نسقط  من التعب، نرتاح قليلا، ثم ننزل لنشيّش شيشة ليمون على نعناع في قهوة البورصة، في ركن مظلم بعيد، ونحن صامتتان تماما.

Sunday, May 27, 2012

أبدًا، لا تصدقني

ما مدى صدق ما أكتبه عن نفسي؟

لم أفكر أبدا أن شخصا لا أعرفه وبعرفني، يقرأ ما أقوله. أعترف دائما لمن يدهشه ما أكتبه من الأصدقاء "بشرّد لنفسي، عادي". وأدعي أن من يقرأ هم هؤلاء الأصدقاء، أو أشخاص لن أعرفهم ولن يعرفوني. فكرتُ مؤخرا إثر حادثة احتكاكي بقاريء للمدونة؛ هل ما أكتبه هنا حقيقي؟ لنفترض أن شخصا لا أعرفه، يقرأ المدونة، ثم تعارفنا. لنفترض أننا جالسون الآن وجها لوجه نتكلّم، فيم سيفكّر؟ سيقارن بين صورته المتخيلة عن شخصيتي والواقع الذي يراه. "هي بتقول كذا، بس بتفكر كذا" لو حدث هذا، سأمقته جدّا. سيدعي أنه يعرفني جيدا؛ يقرأ كل ما أكتبه. وسيفترض، يفترض، يفترض. ولكن الواقع مغاير. أعي تماما حقيقة أنني أكتب الأشياء لأتخلص منها. ذاكرتي لا تسمح لي بتذكر كل شيء. مثلا، عندما أعود لتدويناتي القديمة، لا أتذكر فعلا من كنت أقصد بما قلتُ. لا أتذكر ملابسات الموقف. ما يبقى من كل ما أكتب عنه، هو ما أكتبه فعلا. بالأمس حلمتُ حلما سيئا جدا، وكنتُ سأموت خزيا ومهانة في الحلم؛ فاستيقظتُ بعد ساعة واحدة من نومي. كان الحلم جليّا في ذهني. كتبته. قمتُ لأغسل وجهي، وفي طريق عودتي للسرير، كان الحلم قد بدأ في التبخر بالفعل. كل ما أكتبه، يبدأ في التبخر أثناء كتابته. بعد أسبوع على أقصى تقدير، ستكون هذه التدوينة مجرّد كتابة. الأطرف، أن حتّى محاولة استنتاج سمات ثابتة لشخصيتي أمر عبثي. السمة الوحيدة الثابتة أنني شخص هوائي ومتقلّب الأطوار بشدّة. لم أعد البنت التي تتحدّث عن التفاصيل بهذا الاهتمام، ولا البنت التي تتحدّث عن سأم الحياة بهذا الابتذال. ولا أحب ما كتبته سابقا، وأراه مملا. الكتابة فضيحة لا بدّ منها. ولكن لا يجب أخذها بهذه الجديّة. ولا يجب أخذي أنا ينفسي بهذه الجديّة. لديّ من الخفة ما يمنحني امتياز التقلّب، ومن الثقل ما يكفي، للكتابة. وأوازن بينهما بالنسيان.

Friday, May 25, 2012

اقتباسات

"أنا قلت إن أنا كنت مرحلة في حياتك، وعدّت" "انتِ حلوة، بس المفروض تخسَي شويّة" "كل حاجة عندك فاكس، نفسي أعرف ايه الحاجة اللي بتهمّك فعلا؟" "مشكلتك إنّك بتفكري بسرعة، وبتكتبي بسرعة، فايدك بتغلط" "أسلوبك مستفز جدّا" "كنت نايم" "انتِ كنتِ قاسية عليهم أوي النهارده" "انتِ بدأتِ فعلا تبعدي عننا خلاص، والناس كلّها واخدة بالها" "شعب ما يمشيش غير بالكورباج" "مش بعاكس والله، بس انتِ حلوة فعلا" "مش مهم، المهم يصرف عليكِ" "طبعا هرمي حاجتك كلّها أما تمشي، ده أنا ما هصدّق الدنيا تروق من كراكيبك" "انتِ فين؟"

هل صار الكلام كله مُحزنًا؟ أم أن ذاكرتي تحتفظ بالسيء فقط؟

Monday, May 21, 2012

استثناء

انشغلتُ منذ شهور طويلة بالبحث عن قسوة العالم واثباتها. كنتُ أريد ايجاد مبررات كافية لكراهية العالم، ولبرهنة أحقيته بها. لا أقول إنني غيّرت رأيي، ولا أقول إنني لم أفعل. فقط، هذا اليوم سأستثنيه مؤقتا. لأنّه بدأ بداية طيبة، وأنا أقدر البدايات الطيبة. فقط لأنه بدأ قبل شروق الشمس. فقط لأنّه بدأ بصوت Pink Martini وإيمان البحر درويش. فقط لأن البنت التي اختارت أن تجلس جانبي في الميكروباص كانت جميلة، وكانت تبتسم، ونظرتْ لي نظرة اعتبرتُها امتنانا. فقط لأنهم أتوا بعامل جديد صغير في المقهى، وجعلوه يرتدي "بابيونة" بدلا من  "الكرافتة" لصغر سنّه. فقط لأن هذا الطفل له ابتسامة تمزج التباهي بالخجل في مزيج رائع. فقط لأن الإسباني مبهج. فقط لأن الأصدقاء طيبون وحنونون. سأنشغل اليوم بالبحث عن مضادٍ للقسوة. سأدعوها الرحمة. سأدعوها الجمال. وسأدعوها حب العالم. فقط لأن الأشخاص الذين أحبهم موجودون. إلى (دينا وسلمى ويحيى وجمال وفريد وحسام وشادي وسلمى ونهى وهبة وشاهين وريهام). إليك وحدك في جملة مستقلّة. سأحب العالم ما دمتم فيه. وسأحب الحياة ما دامت الشمس تشرق ببطء وتغيب بجمال ووعي. ما دامت الموسيقى موحية لهذه الدرجة. وما دامت الآفاق مفتوحة. ما دام البشر يستثمرون قدرتهم على الإبتسام. وما دام الشغف. سأحبه اليوم. وسأرجو أن يحبني. ولن أحزن إن لم يفعل.

Sunday, May 20, 2012

الصدفة والدهشة والملل

لأنني كنتُ الوحيدة التي شاهدتْ الألعاب النارية؛ كانوا يعطون السماء ظهورهم- اعتبرتُ أن هذا امتيازا يمنحني الحق في اعتبارهم غرباء بما يكفي. ابتسامتي الواسعة لم تكن سوى انعكاس للدخان الذي لم أتوقف عن نفثه. لم يكن الأمر سوى اختبارًا جديدًا لألم أطارده ويراوغني. أدهشتني حقيقة ذهاب الألم، وأفزعني حلول الغربة محلّه. كان كل شيء موجودا، ولكنّي لا أعرفه. كل شيء كما هو، أنا الغريبة هنا. اعتبرتُ أن هذه الغربة تمنحني حق حضور الأفكار بدون استدعاء. فكرّتُ في أن الكآبة قد ذهبت، وأخذت معها الكتابة. تذكرتُ أن اسماعيل ياسين الذي دخل إلى كوميديا السينما ليجمع مالا يجمّل به فمه، تراجع عن التجميل إذ اكتشف أن هذا الفم يجلب له الأموال. قلت لنفسي: "هل من المسموح السماح للغايات أن تتغيّر؟". ناقشتُ نفسي في كل شيء، وأخبرتهم كذبا أنني أناقشهم. الألعاب النارية، كانت حمراء، أُطلقت مرّة واحدة فقط، وكنتُ وحدي من رآها. ولكنّهم جميعا رأوا المنديل الصغير يطير. مبهجًا، لكن وحيدًا. مستغربًا وغريبًا. اعترفتُ -لنفسي- بالافتتان باللغة، ووجدته مبررا طيبا لأنغمس كليّا في البحث حول اللعبة التي تقوم بها "ألفٌ" أُضيفت، عمدًا ودهاءً، بعد راء "غربة" لتصبح "غرابة". حول قدرة حرف المد الجبروتية على تحويل السكون لفتحٍ. وقلتُ أخيرا، إن التحوّل الذي تشهده ذاكرتي الآن مغرٍ بالحديث عنه. إذ لم أعد أنسى شيئا من تفاصيل ما حدث، ولكنّي أنسى إدراكه. واقعٌ أم حلمٌ، لا أدري؛ تيه كامل. كل الأحلام وقائع، وكل الوقائع أوهام. والكوابيس التي تغريني بالموت، تزداد قدرةً على الإقناع مع الوقت.

نفدت المعاني؛ لا جديد يقال.
الصمت أحفظ لماء الوجه
من غباء لا تفهميه ..
انتظري البعث، أو التحلل.
ودخنّي بشراهة المبتذلين ..
إما يقين الغباء الكامل
وإما غباءك في وجود النابهين ..
دخني بشراهة ..
واصمتي.

Monday, April 16, 2012

رسالة - تفتح بمعرفة المُرسل إليه.

سأكتب إليك هذه المرّة. ليس عنك؛ سأنتقل مباشرة من أن تكون طرفا غائبا في إحدى حكاياتي الكثيرة إلى أن تكون المخاطب بوضوح. سأحكي لك. 
صدقني، هذه ليست رسالة غرامية. يجب أن تفهم هذا، وألا تعاملها على إنّها رسالة حب. أنا أساسا لا أعرف ما هو الحب، رغم أنني أحبّك، وأثق في أنني أحبّك. ولكنّي لستُ بالسعادة والتصالح الذي ترى دائما توجّب امتلاكي لهم. هل هناك أسوأ من أن أحبّك دون أن أستطيع تعريف الحب أصلا؟ 
سامحني، أنا لديّ من المشاكل النفسية ما يجعلني أبعد ما يكون عن البنت اللطيفة التي يجب أن تحبّك وتحبّها وتنشر في حياتك البهجة. أنا أحاول، ولكنّي أشعر دائما أنني مقصرّة، ليس تقصيرًا، عجزا. ربما أنا معقدّة، ربما أنانية. هذه رسالة إليك، لا تظهرَ أنت فيها، وأظهر أنا كالعادة. سأضطر أن أسامح نفسي، وأقول إنني أتحدث إليك، وبالتالي المنطقي أن أتحدث عن نفسي. سأضطر أن أقنع نفسي بشيء كهذا مؤقتا، حتّى يمكنني الاستمرار. هل أخبرتك أنني أقنع نفسي بكل الأشياء "مؤقتا"؟ هل أخبرتك عن الموقوتية التّي تلازم كل قناعاتي؟ ربمّا حدثتّك عن رحيلي الدائم، عن قدرتي على المغادرة في أي وقت. هل تعرف إذًا كم القسوة التي تتضمنها هذه الفكرة؟ القسوة من جديد .. سامحني، ستضطّر أن تسمع منّي نفس الكلمات أغلب الوقت. أنا شخص ممل بما يكفي ليعيد تكرار نفس المشاكل، رغم أنني أشتكي من الأشخاص الشكائين المملين. ولكنّي أشتكي، ليس كثيرا، وليس لمدّة طويلة. أشعر دائما في وسط شكوتي بتفاهتها ولا معناها، فأرغب في التوقف. أندم، أتمنّى لو لم أبدأها. لو فقط جلستُ وحدي كما أفعل دائما، وبكيتُ. ولكنّها هشاشتي، أخشى أن أصدّق أنني وحيدة، رغم أنني وحيدة.
أعلمُ أن لا ذنبً لك لتحتمل كل هذا، ولكنّي أحبّك. وهذا يكفيني جدّا. لا أريد أن أقول أن حبّك يغيرني، ستبدو جملة مبتذلة وأنا أكره الابتذال. لديّ حساسية مزمنة من كل الكلام الرومانسيّ، لديّ حساسية من الغراميات، لديّ حساسية من الحب أصلا. ولكنّ ماذا سنفعل إذا؟ أنا أحبّك، ولا يبدو أن هناك طريقة أخرى للتعبير عن هذا سوى باستخدام الكلمات المبتذلة. هل ترى كم أضحّى من أجلك؟
أكتبُ إليك لا لسبب سوى أنني اكتشفتُ في لحظة درامية من لحظاتي المبالغ بها أنني أحبّك فعلا. اسمع الحكاية من بدايتها، سأثرثر كالعادة. كنت في الميكروباص -ومعظم لحظاتي الدرامية تكون في الميكروباص أو بعد قراءة نص مرهق- عائدة إلى البيت، وكانت أم كلثوم تغنّي "رقّ الحبيب". أنا أعلم أنّك لا تحب أم كلثوم، ولا تعرف أصلا "رقّ الحبيب". دعني أحكي لك الحكاية التي أحكيها دائما. لدينا "أم كلثوم" وهي امرأة قويّة جبارّة، لدينا القصبجي وهو ملحن عوّاد مرهف الحس بشكل لا يصدّق، وملامحه دقيقة كقلبه، ولدينا أحمد رامي الذي لا نعرف عنه شيئا سوى أنّه كان يحب أم كلثوم. والحقيقة أنّه لم يكن وحده، كان القصبجي وآخرون يشاركونه الشغف بهذه المرأة الجبارة. رامي يكتب "رقّ الحبيب .. وواعدني .. وكان له مدّة غايب عنّي"، ويلحنها القصبجي. تبدو أشياءً عاديّة؟ لابد لأحد أن يكتب ولآخر أن يلحن لتغنّي هي في النهاية. لا يهم إذن العذاب الذي تعذبّه رامي وهو يكتب، ولا يهم أن القصبجي كان ينحل اللحن من جسمه ليزداد نحولا. وأم كلثوم بجبروتها، غنّت الأغنية وكأن شيئا لا يحدث. اعتبرته عاديّا، يكتبون ويلحنون لأغني أنا. لتقف أمام الميكروفون الذي يبعد عن فمها مسافة كبيرة، ويجلس القصبجي وراءها على العود، وتقول "وايه يفيد الزمن مع اللي عاش في الخيال". عموما، زادت الثرثرة عن حدّها، ولكنّي أردت أن أضعك في الحالة الشعوريّة الكاملة، لتفهم كيف أشعر وأنا أسمع الأغنية بعد كلّ هذا. أعرف أنّك تهتم أكثر بالمنتج النهائي، ولكنّي أهتم بالقصّة وراء العمل أكثر. المهم، كانت أم كلثوم تغنّي رقّ الحبيب، برقّة لا تُعرف عنها، وصورة القصبجي لا تفارق خيالي. فكرّت وقتها أن حبّك لا يجيب عن أسئلتي. فكرّت أن العالم لا يزال موحشا جدّا، ضيقّا جدّا، وخانقا. فكرّت أنني ربما لن أستطيع أن أحتمله كثيرا، ربما لن أستطيع أن أقاومه كثيرا. ربما تكون انهياراتي الصغيرة المتتالية مقدمّة لانهيار أكبر. شعرتُ أنني أظلمك. قلتُ "لا يستحق هذا". ثم قلتُ "ولكنّي أحبّه"، وصدقني لن أستطيع أن أعطيك أكثر من هذا. لا ضمانات ولا وعود، ربما لن تجد لديّ ما يعوضّك دائما، لستُ جميلة، لستُ ذكيّة، لن أكون شيئا مهمّا. قد ينتهي بي الأمر لأن أجلس في غرفة البيت الذي ستأتيني به، أدخن وأكتب كلاما سيئا وأتحدّث عن قسوة العالم بابتذال. ولكنّي أعدّك أن أحبّك دائما.
أنا من جهتي، سأحاول جاهدة أن أجعل الإجابة على كل الأسئلة هي "بحبّك"، بمعنى آخر: وجودك. قد تبدو محاولة ساذجة، ولكنّي سأحاول. سأجيب عن قسوة العالم بحبّك، سأقول إن خلو الحياة من المعنى ليس مهمّا في ظل حبّك. سأقول أن فشلي الدائم وعثراتي الدنيوية المتكررة ليست شيئا يُذكر ما دمتَ معي. لا أعدك أن أنجحك دائما. سيكون عليك أن تحتمل كثيرا. 
ستحتمل نزواتي، تقلباتي الحادّة، أغانيّ الكئيبة المملة، حديثي دائم عن أشياء ليست مهمّة كحكاية القصبجي، وشكاويّ المتكررة عن نفس الأشياء. ستحتمل كثيرا، أعلم وأقدّر هذا، ولن أعطيك الكثير. فقط، سأحبّك أكثر.

Tuesday, April 10, 2012

الحديث الممل عن الأشياء المملة

كالبحر، كلما قلتُ هدأتُ، ثرتُ من جديد. لا أنجح في التنبؤ، لا أنجح في الوقاية. كالسيجارة، تزداد حميتها قرب النهاية. وقفت على بعد أرقب، فتخيلني المراقَبون معهم. وكلما وجدتُ طريقًا، أضعتُه. فتنني الاختزال، فتقمصته. طارت منّي الحكايات، وطارت منّي الأحلام، وطار البشر، ومنعني ثقلي من الطيران، فرسوتُ على الأرض تدور بي. تعاملتُ مع الكراهية، وأربكني الحب. حاولتُ أن أبدو شرسة، وخانتني حركات يدي العصبية. خفتُ من الذكريات، فنسيتُها، ثم أرعبني النسيان، فحاولت التذكّر، فأماتتني الذكريات. لا أعرف من أي شِقٍ في الروح، تقتحمني هذه الغربة والغرابة. ولا أعرف في أي فصول السنة، سأستطيع تطييرها بعيدا كطائرة ورقية. أستطيع التصرّف في بعض الكلمات، أنفّس بها الضغط المحبوس قليلا، ولكن يبقى الإناء على حافة الانفجار.
كل ما أفكر فيه، في نهاية هذه الليلة السيئة، أنني أريد الرحيل، حتّى لو أسميتُه هروبًا. أريدُ الهروب من هذا البيت، من هذا البلد، من هذه الإنسانية. أريدُ الهروب من رأسي، من قلبي، ومن الكتابة. أريدُ بشدّة أن أعيشَ وحدي قليلا على حافة العالم، في النقطة الحرجة التي يسقط بعدها. أن أشعل نارًا في هذه الصحراء، وأظل أصرخ، وأركض حتّى أسقطَ عن هذه الحافة؛ فأسكن للأبد.

Thursday, April 5, 2012

ذكْر ما جرى

لففتُ الله في سيجارة، دخنتها في أوقات الملل والانتظار. ثم غيّرت نوع سجائري لمّا وضعوا عليها الصور القبيحة. وحين قال لي المتشككون، أن تغييري لنوع السجائر ليس أصيلا؛ جاء بدافع الملل وقبح الصورة وأنني سأعود لاحقًا، لم أرد. وكنتُ أعرف يقينًا أنني لن أعود. أدركت مساوئها وعدم أصالتها هي نفسها حين ابتعدتُ بما يكفي لأرى. أمّا الحُب، فجعلت الطريق إليه اتجاهين، يأتيني وأذهب إليه، ولكنّي أبدا لم أُعَبده؛ أخذته على عثراته، ولم أفكر في تغيير الوسيلة. أتيتُ بمقاهي وسط البلد إلى غرفتي، وطردت عائلتي إلى المسجد المجاور. واكتفيتُ من الذكريات بالعناوين والمخلفات النفسيّة، واعتبرتُ أن الماضي مضى، وأن الحاضر حاضر؛ فلا داعي للحنين. لعبتُ البراجماتية ببراعة، واكتفيتُ من الوطن بجنسيته وأحبائي. بكيتُ في كل مرّة أنكرتُ فيها عاطفيتي، وكذبتُ كل مرّة اعترفتُ بها. وقلت للدراما: لا تتبعيني، فسارت بجانبي، ينظر كلٌ منّا للآخر بطرف عينه، ولا يتمعّن. فرقتُ بهجتي بين القبائل، ولم أحفظ لنفسي منها شيئا. وادعيتُ دائما أنني متصالحة، ثم وسمتُ العالم بالقسوة، والحياة بالصلادة. قطرّت أمّي في زجاجة، تنكسر دائما، وأحاول جبرها. ثم في النهاية، حولّت نفسي لمرآة؛ تبرق، ولا تشف.

Sunday, March 25, 2012

تساؤل عن الهشاشة

أيهما أسبق في الحدوث؛ الهشاشة أم الأحداث الملازمة لها؟ بمعنى: هل تصيب نفسي الهشاشة أولا فتبدأ في التساؤل من جديد حول كنه الأشياء بدرامية، وتعي مشاكلها، أم تنبع المشاكل فتودي بي لطريق الهشاشة؟

لا أجد أبدا النقطة التي تبدأ عندها الحالة، أدركها عندما تتشكّل. ولكنّ الادراك دائما نقطة محددة، تبزغ فجأة، عادة في عبوري لطريق، أو في لحظة قيامي من على كرسيّ القهوة أو في صعودي للسلّم. أقف لحظة وأقول: هذه هي الهشاشة. تسبق اللحظة معطيات، منفردة، تضعها لحظة الادراك في مدار مرئي. الموسيقى تصبح قاسية جدّا، الحياة بعيدة، والبشر غير محسوسين. ثم تبدأ مشاكل من نوعية: أمّي، النقود، الدراسة، الأصدقاء، المجتمع- في الطفو على السطح. ربما هي هناك طول الوقت تنتظر باعثًا، رُبما تكون قد بدأت في الطفو فخلخلت الكيان المتماسك نظريّا قبل أن تظهر؛ لا أعرف حقّا. لكنّي أعرف أنني أكتبُ كثيرا، وأنني أقرأ كثيرا. وأن كلامي يصير مختزلا، وثقتي بنفسي تتهاوى، ومأساوية الوجود تتعمّق. ودائما وأبدًا يعود السؤال القاسي: لم عليّ دائما أن ألعب لعبة لم أختر قواعدها؟ وماذا أختار إذا كانت كل الخيارات المتاحة غير صحيحة؟

Saturday, March 24, 2012

التشبث بالغرائبية

لأن الأيام الغرائبية تستحق، تشبثتُ بشدّة بايقاعها عندما اكتشفته. تبّاع ميكروباص الصباح كان نجاح الموجي، وسائق العودة كان محمود حميدة في عفاريت الأسفلت. قاومتُ بشدّة أن أطلب من الأوّل أن يغنّي "سلّم لنا بقى ع التروماي"، ومن الثاني أن يقشّر برتقالة. وولكنّي لم أقاوم أن أبادلهما التحديق. على القهوة، وفيما كنتُ أدخن سيجارتي، نظرتُ للرجل الذي طلب منّي سيجارة نظرة متفحصّة طويلة ثم قلتُ ببرود شديد :"توء"، ونهرتُ بائع المناديل بعنف لأنّه ألّح، لكنّي كنتُ سعيدة وخفيفة خفّة محتملة. أنهيتُ أكثر من ثلثي الكتاب في ساعتين، ودخلتُ حالة الكتابة التي افتقدتها بشدّة. الطريق الدائريّ في النهار، مبهج للغاية، ولا يوحي بوحشته عندما يحلّ الليل. ورود ستيوارت يغنّي في أذني عن الطريقة التي تمسك بها حبيبته السكّين، فأحببتُ السكّين جدّا. ما زال العود الذي اشتراه صديق بالأمس، ولعبت به يثيرني وأفكّر فيه كثيرا. وأصبحتُ أجد آلام بطني والصداع والدوار أشياء لطيفة. فيما تتخذ نظرتي للأفكار والبشر منحًى غريبا، ثمة قرارات بشكل حياة مختلف تتشكّل بعيدا في طبقات مخي؛ بعيدا بما يكفي لأشعر بها ولا أدركها. السحاب قطع قطن كبيرة، ضغطها ضاغطٌ بلوح زجاج على خلفية ورقة زرقاء؛ متشكلّة وغير ملموسة. والغرائبية تجعلني أرى الحياة كلّها من وراء نفس اللوح على خلفية ضوء الشمس؛ مرئية وغير مُعاشة. لكنّها في كل الأحوال جميلة. الغرائبية تناسبني: لستُ واقعية بما يكفي، لستُ رومانسية بما يكفي، ولستُ جاهلة/عالمة بما يكفي. لذا، وبشكل مبدئي، سأبحث عنها دومًا. ويكفي هذا القرار الآن.

Friday, March 23, 2012

مُسكن وقتي يصلح لليلة واحدة

في قاع شنطتي تستقر الأجندة الصغيرة حيث ركزّت طوال طريق عودتي لأكتب ما يجب عليّ فعله حين أصل للبيت. بجانب السرير، تستقر الثلاث كتب التّي يملأني شغف حقيقي لقرائتها. على يمين شاشة الكمبيوتر تستقر كتب الدراسة والكثير من الأوراق المكتوبة بالإسبانية وأرغب فعلا في مذاكرتها. وعلى اليسار توجد المقالاتان التّي أتمنى ترجمتهما منذ أسبوع. في الغرفة المجاورة تجلس أمّي التّي أتمنى أن أذهب إليها وأقول كلاما لا أصدقه عن أسفي عمّا قلته ونيتّي في أن أفعل ما تريده. وفي مكان ما في وسط البلد، يوجد الولد الذي أريد مكالمته لأؤكد له افتقادي. وفي رأسي تتصارع كل أفكاري السخيفة والكئيبة عن فشلي عن انجاز شيء حقيقي وعن تيهي في الحياة بين الأفكار والتناقضات، مع سعادتي الصادقة بالولد الذي أحببته وكانت الحياة كريمة معي بما يكفي لتجعله يحبني أيضًا. 
أريد أن أفعل كل الأشياء، ولا أريد أن أفعلها. والنوم دائما أكثر اغراءً وسطوة من الرغبة في الانجاز.
وأعرف أنني رغم كل تأكيداتي وتعنيفي لنفسي بسبب التكاسل والأداء المنخفض، سأعتبر كتابتي لتدوينة جديدة بعد أقل من أسبوعين -بعيدًا عن مدى سوئهما- انجازًا في ذاته، وسأكتفي بالمكالمة ثم أنام. وأنا أعد من نفسي من جديد، أن من الغد سأصبح شخصًا آخر، أكثر قدرة على التواصل الاجتماعي، أكثر قدرة على الإنجاز، وأكثر قدرة على ترتيب أفكاره وحياته كلّها.

Tuesday, March 13, 2012

الانتظار طويلا

أحذيتي المتسخّة والمقطوعة دائما ..
شنطتي الثقيلة ..
أم كلثوم تغنّي في أذني للأبد ..
كتبي تتجدد ذاتيًا ..
القهوة غير المستساغة وتطفل البشر ..
حديث لا ينتهي عن رداءة نظريات تفسير الوجود ..
ومولعون بعقولهم الفارغة ..
وثقة بالنفس متأرجحة بين القمة والقاع ..
والشكاؤون في كل مكان ..
خيارات القتل ترجح مع انحسار المساحة المحيطة  ..
والوقت يضيق .. الوقت يضيق ..

Tuesday, February 28, 2012

عن الخفّة والنسيان - تدوينة تجريبية

لسّه فاكر قلبي يديلك أمان؟
إطلاقًا. كنتُ في الكليّة. كانت محاضرة التاسعة صباحا ملغاة، وكنت أعلم من اليوم السابق؛ نمتُ وذهبتُ مباشرة إلى محاضرة الثانية عشرة. أي ساعات نوم إضافية، وتخففا من زحام الثامنة في شارع الهرم. كانت محاضرة لغويات ممتعة، وكان اليوم السابق ممتعًا؛ باختصار مخل: كنت سعيدة. قرب نهاية المحاضرة، انتبهتُ إلى البنت التي تجلس على الطرف الآخر. رأيتُ انعكاس وجهها في زجاج النافذة المواجه لها، وتألمت. البنت التي عرفناها في العام الماضي ممتلئة قليلا عن العادي، وذات وجه مبتسم متورّد، صارت هزيلة بعينين غائرتين ووجه أسود وصوت مكسور ومرض نادر يجبرها على غسيل الكلى. أتحاشاها جدّا مذ عادت للظهور؛ خوفًا من شفقة لا أحبها، وخوفًا من إحالة مخي الفورية إلى ابن خالي الذي ينتظر مصيرا مماثلا. ابتسمتُ لها ثم حاولت التركيز في المحاضرة، ففشلت. أخذت أرسم على المقعد خناجر متعددة الأحجام، ثم رسمتُ وجها افترضت أنّه الشيطان، وكتبت في ورقة صغيرة: "جت في بالي ابتسامة .. انتهت بعويل" ثم مزقتها. انتهت المحاضرة وسألتني زميلة عن النسيان، فقلتُ أنني أنسى بسرعة وأنني لا أرتبط بالأشياء والأشخاص لدرجة تجعلني أتألم عند فراقهم، وقلتُ أنني عند الملل "بمشي ببساطة". حسدتني، وعلقّت أنني هكذا أستمتع بحياتي، وأنا هززت رأسي موافقة؛ ولكنّي كنت أدرك داخلي أن هذا ليس سوى نوع من أنواع الخفّة التي لا يمكن احتمالها.

ولا نظرة توصل الشوق والحنان؟
قررتُ المشي إلى وسط البلد من الجامعة. أمام المركز الثقافي الروسي تذكرّت موقفا قديما. وكانت أغنية حديثة في الراديو لا أعرفها تتحدّث عن فقدان الذاكرة. فكرتُ أن فقدان الذاكرة ليس بالضرورة مريحا؛ هناك أشياء يجب تذكرّها. نوع من الحتميّة قد لا يكون محببا ولكنّه ضروري. أمام مبنى الشيراتون، توقف بجانبي ميكروباص لا يوجد به سوى كرسيّ واحد خال، فركبت. وعندما وصلتُ لصالح قررت أن أكمل قراءة كونديرا. قيل لي كثيرا أنني شخصية متقلبة المزاج بحدّة، ولكن ماذا أفعل أمام كونديرا؟ عندما وصلتُ لـ "لكنّ العالم كان من البشاعة بحيث إن ما من أحد كان يريد أن يُبعث من بين الأموات" فهمتُ تماما أن سعادة اليوم السابق ولّت، مؤقتا على الأقل..
التقيتُ صديقا محببا بالصدفة. حدثته عن حبي للشيطان، عن قسوة العالم غير المبررة، وعن تطوّر الجنس، وعن علاقتي القديمة الفاشلة. حدثني عن المثلية الجنسية وعن الكتابة والكتب التي اشتراها مؤخرا وعن علاقته القديمة الفاشلة. تركني ليقابل حبيبته. وتذكرتُ حين قلتُ لصديقتي أن العلاقات الخاطئة تترك آثارا لا يمكن معالجتها كلّها. قلتُ لنفسي أن العالم عبثي تماما وأن ذكرياتنا تلاحقنا مهما رغبنا في نسيانها. وقلتُ أن قسوة العالم ليست مبررة في ظل عبثيته، ولكنني استدركتُ لنفسي أن العبثية جزء أصيل من قسوة العالم أصلا. العالم قاسي لأنّه عبثي. وفكرّتُ أن هذه أيضا خفّة لا يمكن احتمالها.

كنت تسمعها نغم وأسمع صداه
على كرسي مجاور، جلست فتاة عاديّة لدرجة ملحوظة، مع رجل. كانت تعطيني ظهرها فيما أرى وجه الرجل كاملا. كنت أسمع شذرات كلام منها، ويبدو كلاما جادّا عن البلد والسياسة والثقافات والبشر. لا يمكنني الحكم على عقليتها أو ثقافتها من هذه الشذرات، ولكنّي لاحظت شهوة أعرفها جيدّا في عينيّ الرجل. كنتُ متأكدّة أنّه لا يسمع تقريبا ما تقوله، وأنّه لا يعنيه كل هذه الثرثرة، كان يفكّر في شيء واحد فقط: كيف يمكنني أن أعتليها؟ شعرتُ بالتقزز وبالإهانة. قد يكون تخميني خاطئا في هذه الحالة، ولكنّ الحالة قائمة.
سعديّة في رواية "سعدية وعبد الحكم وآخرون" ترى الجنس شيئا مبالغ في تقديره، فيما يحاول كونديرا أن يقنعنا أن خيانات توماس الجنسية لا تنقص من حبه لتيريزا شيئا. أنا لا يهمني هذا أو ذاك، ولكنّ يهمني أن أتحرّك بحريّة تسمح لي أن أكون من أرغب في أن أكون في الوقت الذي أريده. بمعنى: إذا أردت إغواءك، فدعنا نتحدّث بمياعة عن أمور تافهة تنتهي بنا إلى طريق نعرفه، ولكنّ إذا كنّا جالسين على القهوة وأنا أحدثّك عن آرائي الفلسفية العظيمة في الحياة، لا تفكّر في شيء غير هذه الآراء الفلسفية العظيمة. من أكبر مشاكلي النفسية رغبتي الدائمة في تجربة عالم الرجل الذي لا يتاح لي. مثلا، المشي وحيدة في الثالثة فجرا، أو المبيت في الشارع، أو دخول غرزة في منطقة مهجورة. كانت إحدى حلولي الساذجة ألا أجعل لأحد فرصة ليفكّر في كوني بنت من عدمه. مثلا: الابتعاد عن الملابس الكاشفة، ترك حواجبي على سجيتها، التخلي عن الكحل، عن الضحكة الناعمة، ولكنّي بالتجربة اكتشفت عبثية الحل. سأظل "تاء مربوطة" مهما فعلت. فكرّت أن صحبة أصدقائي قد توفّر لي حماية أفعل معها بعض هذه الأشياء، ولكنّي عدتُ للتأكيد أن هذه لن تكون التجربة الخالصة.
على كراس أخرى جلست مجموعة أصدقاء. فيهم بنت غير جميلة إطلاقا، تضع ماكياجا مفتعلا، وترتدي ملابس مفتعلة، وتتحدّث بمياعة مفتعلة. تحاول جذب اهتمام واحد من الجالسين عن طريق التصرّف بتلقائية مفتعلة كذلك. تخبطه في كتفه، وتنظر له طويلا في عينيه، وتحاول أن تخبره كم أنّها عظيمة وأنّها لا يفرق معها كونه ولد من بنت، وأننا سواسية، ولكن طريقتها تقول أنّها لا ترى هذا إطلاقا. شعرتُ بالتقزز مرّة أخرى. وللحظة، دمعتُ عيناي. قلتُ أن قواعد هذا العالم غريبة. من فرض عليّ أن أكون أنثى فيما هو رجل، ومن فرض عليّ أن أكون الكائن المرغوب فيه طوال الوقت؟ ولماذا نُمنح الرغبة في فعل أشياء إن كان محكوما علينا بألا نستطيع؟ فكرّتُ أن هذه البنت المفتعلة قد وجدت طريقة تتصالح بها مع كونها الطرف الأقل، وأنّها تبدو سعيدة، وأنني ربما الوحيدة التي تفكّر في قسوة العالم أكثر مما يجب. وقلتُ في النهاية أن كون البشريّة بهذه السطحية ليس أيضا سوى خفّة لا يمكن احتمالها.

كلمة كلمة لمّا راح .. الهوى ويّا الجراح
ما الذي يجعلنا قادرين على البدء من جديد وتكرار ما فعلناه؟ "يقيننا" في أن هذه المرّة ستكون مختلفة، أننا سننجح في هذه المحاولة.
أي شرخ في جدار اليقين هذا يجعل أي محاولة للبدء من جديد مهزوزة وفاقدة للحماس الكافي لانجاحها إن كان هناك أمل حقيقي هذه المرّة.
تقلبات مزاجي الحادّة، مردودة لتقلبات حياتي الحادّة كذلك. من الأقصى للأقصى طوال الوقت. لا أعرف شيئا واحدا بدأته واقتنعتُ به واستمررت في فعله. وكل شيء دخلته وصلت لأقصاه ثم رحلت. وكل علاقة فاشلة تعاملت معها على أنّها العلاقة الأخيرة. كل فكرة اقتنعت بها دافعت عنها بحماس وأقنعت بها البعض، وغيرتها. وكل لحظة تنوير اعتبرتها الشمس التي أقول بعدها أنّها لم تكن سوى انعكاس لضوئها على صفحة مياه -تشبيه شاعري مبتذل، ولكن سأحتفظ به- وأن الشمس الحقيقية قادمة. الآن أقف في مرحلة من الإدراك والوعي بكل ما مضى تجعلني أتصرّف بفتور تجاه أي شيء. لا يعنيني أي شيء لهذه الدرجة. أتحدّث عن أفكاري وكأنّها أفكار عامّة لا تخصني. لا أتحمّس بشدّة لفعل شيء ما. وأقف على مسافة مزعجة من كل الأحاسيس الانفعالية. لا شيء يساوي قيمة عظمى لأنّه سيزول لاحقا، أنا نفسي ليس لي هذه القيمة لأنني سأموت وسأزول نهائيا. بالمناسبة، اليوم أدركتُ أنني أقتل كل أبطال قصصي في النهاية. لا معنى لأن نعيش بهذا الحماس، ولا أن نعتنق الأشياء لهذه المرحلة. الوطن والإنسانية والسياسة والأدب والعلاقات، كلّها أشياء مبالغ في تقديرها بشدّة. نحاول بها البحث عن معنى ما، معنى ليس موجودا إلا في أذهان المؤمنين والمبشرين بها. أنا أعيش حياة خفيفة لدرجة لا يمكن احتمالها. .

قولّي ايه قصدك معايا .. بعد ماعرفنا النهاية
متى سأستطيع تنحية قسوة العالم عن تفكيري؟ بدأت أستشعر ابتذال الكلمة، ولكنّها لا تزال تعني لي كل شيء. داروين، أيقونتي لهذه المرحلة، يقول: "من استطاع البقاء ليست أقوى الأنواع، ولا أكثرها ذكاءً؛ ولكن الأنواع الأكثر قدرة على التكيّف مع التغيير" وتأكيدًا لكلام داروين أذكّر نفسي أن السعادة ليست في ايجاد معنى ما لعبثية الحياة؛ السعادة هي أن أتصالح مع هذه العبثية.

وكخاتمة سخيفة لهذه التدوينة أقترح قراءة هذا الحلم.

Sunday, January 15, 2012

سيكون هذا هو الحب

الحب يأتي تدريجيا، ولكنّه يُدرَك دَفْعَة واحدة.

سألقاك كل يوم، دون أن أنتبه أن شيئا ما يحدث. سيصرّح كلانا بالحب، وسنكون سعداء جدّا. وستناديني حبيبتك، وسأستمتع بها. سنجلس لنتفق على مستقبلنا المشترك، وسنشعر بالدفء معًا. وسنحكي طويلا عن أشياء قديمة حدثت، وعن أشياء تحدث، وسنحاول الاقتراب من بعضنا بما يكفي للتماهي. سأحكي عنك لأصدقائي في سعادة بالغة، وسأرقب ردود أفعال الناس على ظهورنا معًا بشغف. وسأفرح كثيرا بيدي الساكنة في راحة يدك وبمكالماتك الصباحية الناعمة. سنلتقي كثيرا ويغيّر كلٌ منّا نمط حياته ليناسب نمط الآخر. سنتبادل الأغاني ونسمعها بإهتمام. سيخفق قلبي في رقّة كلما رأيتك، وستحزن كلما حان موعد رحيلي. سأراك في أحلامي كثيرا، وستنزعج من كوني لا آتيك في أحلامك بنفس القدر. سنتشارك تفاصيل كثيرة وسنضحك كثيرا وسننغرس في حياة بعضٍ بشدّة. سأقول كثيرا أنني أحبك وستقول كثيرا أنّك تفعل ..

ولكن هذا كلّه لن يكون الحُب الواضح.

الحب، ياحبيبي، سيكون ليلة باردة مثل هذه تماما، أجلس فيها وحيدة لما بعد الثالثة فجرا، فيما أعرف أنّك نائم، ثم أضبط نفسي متلبسة بالتفكير فيك بدفء وطيبة وأفكر أنني في هذه اللحظة لا أريد سوى أن أراك ونشاهد فيلما معا ثم ننام. في هذه اللحظة، سأقول لنفسي: أنا أحب هذا الولد. عندها فقط، سأدرك الحُب. عندها فقط سأبتسم وأنا أرى طاقة الحب تملأني تماما.

Thursday, January 12, 2012

وينقُصُني السؤالُ، فمن سأسألُ عن عبور النهر؟

الموتُ خيانة وهذا واضح، والحزن مخادع، يقول أنّه رحل ولكنّه يُضبَط مختبئا في ميدالية قديمة أو نغمات مفاجئة أو في وجه الأم. الأدب مرهق، والحب ألطف كثيرا من كتابة نص والبحث عن أشخاص يحملون في أيديهم كتبا ليقرأوه. وكتابة التدوينات أسهل من البحث عن فاتحة وحبكة وتطوّر درامي وأبطال لقصّة لن تكون أبدا بواقعية التدوينة العفوية المكتوبة بالضمير الأوّل. اللعنة على باقي الضمائر. الوساوس مهيجة، ومهتاجة طوال الوقت. واكتشاف عبثية كل ما يحدث رفيق دائم، في حين أن لمعة العينين تبدو مبهجة لكنّها في واقع الأمر مخيفة. الليل قاسي، والوحدة فارغة تفكّر دائما كيف تملأ نفسها، فتختار الطرق الملتوية. القراءة مثيرة والموسيقى موحية، ولكن في آخر الليل يصيبهما الفقر فيبدأون معزوفة التكرار. البرد مهين، والعجز عن التأقلم مع إهانته مهين أكثر. العائلة وهم موروث، وديْن لم يستدنه أحد لكن يجب ردّه. الأصدقاء طيبون، ولكن نفوسهم تخفي أشياء محسوسة ولن يقولها أحد. الحروف مغازلة والكلمات تستدرج والأفكار تطفو في لحظة واحدة ثم تغطس بعيدا. الشعر يفتح ذراعيه دائما ويغلقهما قبل التلاقي، والسجائر يمرر طعمها اللسان وتترك رائحة في أصابع اليد ولكنّها تمرر غضبا مكتوما. النقود ذرات متطايرة، والبشر مولعون بعد الذرات. سائقو التاكسيّات ثرثارون وأغبياء وسائقو الميكروباصات قليلو الكلام وأكثر غباء. العيون تفضح دائما، ولكن الكلام لا غنى عنه. والادعاء حاضر دائما نيابة عن تصريح مرهوب. الذات العليا عبث لا طائل منه، وتنزيلاتها عبث لا طائل منه، والداعون المؤمنون يؤمنون بعبث لا طائل منه. والأكيد، أن لا شيء أكيد. السياسة سلاسل مغلقة على ذاتها تفضي إلى جحيم دوائر لا تنتهي. وكل شيء سيتغيّر، فلا داعي للنظر تحت الأقدام. وكل شيء مبهم، فلا داعي للنظر للأمام. لا داعي للنظر أصلا.

وقد قال محمود درويش معلقا:
كُلُّ شيء باطلٌ ، فاغنَمْ
حياتَكَ مثلما هِيَ برهةً

وسينتهي كل شيء في يوم، وأنا، وحدي، سأبقى.

----------------
* العنوان لدرويش كذلك.

Monday, January 9, 2012

دم الشهدا على الأسفلت

في كتاب رولان بارت عن التصوير الفوتوغرافي يصف الصورة بأنها موت، تجميد لحركة حيّة، هي إذن حيّة برغم موتها الجزئي. لماذا تبدو هذه النظرية صعبة التطبيق على صور الموتى بشكل عام والشهداء تحديدا؟ 

بموت أحدهم، تكتسب الصورة التي تركها خلفه ثقلا رهيبا لا أحتمله عادة. رغم أن الصورة له وهو حي، إلا أنني أستطيع بوضوح أن أرى موته. يتغير شيء في مكونات الصورة. لحظة. أنا أخدع نفسي. لا شيء تغيّر في الصورة، أنا التي عرفت أن أصحابها ماتوا. لماذا نهرب دائما من هذه الحقيقة؟ لقد ماتوا. ولا فائدة من كونهم كانوا يُشعون حياة، حتّى لو كانت متجمدة لحظيا. لقد ماتوا، وهذا ببساطة يصيب صورة الحياة المتقنة في مقتل. 

سنأخذ أمثلة: 
ببساطة، قد أكون عبرت أمامهم وهم يلتقطون له هذه الصورة، فأسرعتُ حتّى لا أظهر فيها. وقد يكون قد ابتسم لي، وسأموت دون أن أعرف إن كنتُ رددتُ له الإبتسامة أم لا. ولكن ابتسامته الخفيفة في الصورة، حلوة جدّا لو كان حيّا، مرهقة جدّا بعد أن ذهب.

لقد مات هذا الولد، رغم أن أصحابه كانوا يدعونه "شقاوة". لم تحمه "شقاوته" من أن يموت. نعم، مات. وعيناه الواثقتان، أستطيع أن أنظر لهما بتحدٍ لو كان حيّا، لكنهما يكسراني بعد أن ذهب.
------

بين صورة ولدٍ في جامعة يحاول أن يبدو فيها وسيما، وولدٍ ذهب للمصوراتي، لأنّه أراد صورة متقنة غير مهزوزة. الأمثلة كثيرة، ولكنّي أشعر بالخزي وأنا أتفحص صورهم. وبصراحة أكبر، أشعر بالتعب.

عندما مات علاء عبد الهادي، فهمتُ أكثر. لم أعرف علاء، ولم أره ولا مرّة في حياتي. ولكنّي رأيتُ رد فعل صديقة كانت مقربة منه. فهمتُ واقتربتُ. الموت يؤلم الأحياء أكثر. أن تفتقد أحدهم وأنت تعرف استحالة رؤيته، يكسر داخلك شيئا ربما لن يُرمَم أبدًا.

كنّا على القهوة. لا أذكر من الذي فتح الموضوع، ولكنّنا وجدنا أنفسنا نتحدث عن الموت. نتحدث كثيرا عن الموت دون أن نعي أننا نفعل. المهم، أننا تحدثنا عن الدفن وحكينا عن ذكريات قديمة. أذكر أنني حكيتُ شيئا عن مقابرنا التي بنيناها حديثا، وكان جدّي أوّل من يُدفن فيها، وتبعه خالي. أحببتُ دائما الاقتراب من غرفة الدفن. أذكر جيدّا في يوم دفن خالي أن أكثر ما أثار انفعالاتي: شكل المقبرة نفسها. المدفن ستة شقوق في الأرض، مقسمين على جزئين: ثلاثة للنساء وثلاثة للرجال. لمّا كان المدفن جديد، فإن كل الشقوق فارغة. وضع جدّي في الشق الأوّل من ناحية اليسار، وسُدّ الشق بلوح الأسمنت الضخم. وبعدها، وضع خالي في الفتحة المجاورة. بقيت فتحة واحدة في ناحية الرجال قبل أن يتم الفتح على جدّي من جديد. يوم دفن خالي، كان أكثر ما أرعبني: شكل الفتحة الفارغة. كنت أنظر لأهلي الواقفين حولي برعب، أنظر للباكين وأصرف عن ذهني كل الأفكار عن الوحشة والفراق. كنت أنظر لزوجة خالي التي عاشت معه أكثر من خمسين سنة، وأنزعج. عندما ذهبت إلى بيتهم فيما بعد، لم يكن المؤلم هو كرسي خالي الفارغ، ولكن كرسي زوجته الموضوع بجانبه. المرعب في الموت ليس الموت ذاته، المرعب فيه هو الصورة المركبة من الفراغ الذي تركوه خلفهم مع وجودنا بجانبه. أصعب ما في الموت: الوَحْشَة العاجزة.

ظلت الكتابة عمّا حدث ويحدث عبئا ثقيلا. لا أرى لي رأيا سديدا أكتبه لأقدم شيئا. أنا أكتب لنفسي، أكتب لأن أفكاري تتضح بكتابتها، ولأنني أحب أن أقرأ ما قلته عن نفسي. لم أستطع كتابة شيئا واضحا من قبل عمّا حدث. كتبتُ أشياء متحايلة على الفكرة نفسها. كنت مشوشة ومضطربة ولا أعرف موقفا واضحا لأحدده. ربما الآن يمكنني أن أهدأ وأكتب، رغم أنني لا زلتُ مشوشة، ولكنّي صرتُ أستطيع إخراج الكلمات.
قبل 25 يناير "الماضي"، لم أكن أفكّر كثيرا في الوطن. كنت أعرف أن البلد متردية لحال مزرية، ولكنّي لم أصدق أن شيئا سيحدث في الخامس والعشرين. في السادس والعشرين كنتُ في التحرير أبحث عن المظاهرة. لا أريد أن أحكي كثيرا عن تفاصيل هذا المرحلة. لم تكن الحياة لي بهذه البساطة، كان كل شيء أصعب. لم أتمكن من التواجد كثيرا، ولكنّي تواجدت بقدر ما استطعت. وفرحت لمّا ذهب مبارك، وقلتُ: هيه، انتهى الموت. ولكنّه لم ينته. ظل شبح الذين ذهبوا بالفعل يطاردني. زادت الأشباح، ثم عاد الموتُ بقوّة في نوفمبر. برغم أنني أصف نوفمبر بأنّه الشهر الأهم لي 2011، إلا أنّه الشهر الأصعب. الحقائق ترسخت: الناس يموتون.
وضح مفهوم الوطن أكثر: أنا لا يعنيني الوطن. لا أعرف أهمية حقيقية لكوني أعتبر هذا وطني رغم أنني لم أختره، ولا أعترف بالقدر، ولا أجد داعيا يجعلني أعتبر مصر أفضل بقع الأرض فقط لأنني وُلدت فيها. ولكنّي فهمتُ شيئا آخر: الانتماء. فهمتُ معنى الصحبة، معنى الأماكن التي تننغرس داخلنا؛ حولت الوطن لمفهوم آخر: إنّه الإطار الذي حدث لي فيه كلُ هذا. فهمتُ أن القتال من أجل حق ما لا يحتاج إطارا يحكمه. فهمتُ جيدّا ما يعنيه صديقي المقرّب من أنّه ينزل للميدان من أجل نفسه. ليس من أجل الآخرين. وفهمت أيضا أنني لا يعنيني الآخرون، أنا يعنيني الذين أحبهم. أنا لا أريد أن أفقدهم. ليس لأنهم يستحقون الحياة، وإن كانوا هكذا فعلا، ولكن لأنني سأفتقدهم بشدّة.

لنعد إلى الموضوع الأصلي. الشهداء. هل قلتُ أن الشهداء ماتوا؟ سأكررها كثيرا. أريد أن أعيها تماما. وبالمناسبة، الشهداء ليسوا في مكان أحسن. لا يمكننا الجزم. كما أنّهم حرموا أهاليهم منهم. وكل ما نقوله محاولات انكار يقوم بها عقلنا الباطن في مهارة.

في أغنية اسكندريلا "الحريّة من الشهداء" أكثر جملة تخيفني: شهدا بييجوا من ماسبيرو .. ويزوروا محمد محمود. عندما أسمع الجملة أفكر فورا في روح طائرة من ماسبيرو تعبر ميدان التحرير ثم تنحرف شمالا إلى شارع محمد محمود الذي تخشى صديقتي المشي فيه حتّى الآن. تخيّل المشهد يرعبني بشدّة، والقشعريرة تصيبني كل مرّة أسمعها. الشهداء ينخزون القلوب كما يفعل أذان الفجر، عليك أن تنهض الآن برغم البرد والرغبة في النوم. عليك أن تقتص لهم.

الشهداء ماتوا .. وربما هذه هي الحقيقة التي نخجل جميعا من الاعتراف بها، يرفض عقلنا الباطن التصديق. نشعر بالذنب تجاههم، ربما لأننا لم نمت مثلهم، وربما لأننا نخشى أن نموت مثلهم. نسميهم الشهداء ونقول أنهم في مكان أحسن. نقول أن دم الشهداء لن يضيع، وأن الله سينصر الثورة إكراما لدمائهم.. ولكننا لسنا واثقين تماما من كل هذا.

إليكم الحقيقة: الشهداء ماتوا، وهم ليسوا سعداء بهذا الموت. الشهداء لهم أهل يفتقدونهم. الشهداء موتى، بينما نحن لا نزال أحياء. الشهداء ماتوا ويمكننا أن نموت نحن أيضا. وكل هذا الموت يصيبنا نحن فقط .. بينما هناك آخرون لا يزالون يتناقشون في جدوى التظاهر، في أحقية الإسلاميين بالبرلمان (بالمناسبة أشعر بنغزة في قلبي كلما حاولت تخيّل شكل أول جلسة برلمان منعقدة بعد الثورة، وأتخيّل أرواح الشهداء تحوم فوقها غاضبة، وأخاف) ، وفي عجلة الإنتاج والاستقرار والمؤامرات الخارجية، وفي نوايا المجلس العسكري الطيبّة. الشهداء ماتوا ياسادة .. نعم .. ماتوا رغم أنهم، ببساطة، أرادوا الحياة ..ونحن لم نقتص لكوننا نفتقدهم، قبل حتّى أن نقتص لرغبتهم المقتولة في الحياة.

واضح؟ عظيم، الآن، يمكننا الحديث عن 25 يناير القادم بأريحية أكبر وبوضوح أكبر ..

Saturday, January 7, 2012

ده البعد ذنب كبير لا يُغتفر

أصطدم بالكثير من الأشياء غير المبررة وغير المنطقية.

مثلا، لا أستطيع أن أجد الشيء الذي يمنعني من العيش مع جميع البشر الذين أحبهم في مكان واحد. ما الذي يمنعنا أن نجد مكانا كبيرا يستوعبنا جميعا؟ لا يحتاج مواصلات، لا يحتاج جهدا لنلتقي.

لا أجد البعد مبررا، ولا أجد سببا يجعل أحدهم يبذل كل هذا الجهد من أجل أن يحصل على لحظة تواصل فطرية. لا أعرف منطقا يبرر كوننا نحتاج لكل هذه الدوائر المخترَعة من أجل أكثر الأشياء بديهية: أن نحب، أن نتواصل، أن نفرح. 

كما لا أجد سببا يمنعني من أغادر بيتنا فجرا، لأزور صديقتي فقط لأنني أريد معرفة رأيها في قصة شعري الجديدة. ولا أفهم سبب كل هذا التعقيدات التي تحول بين أن أتصل به في السادسة صباحا لأنني أشعر بالبرد فيأتي ليضع عليّ بطانية إضافية.

الحياة معقدة أكثر مما يجب. أو ربما أنا التي تطلب منها أن تعطي أكثر مما تستطيعه طاقتها.