Sunday, January 15, 2012

سيكون هذا هو الحب

الحب يأتي تدريجيا، ولكنّه يُدرَك دَفْعَة واحدة.

سألقاك كل يوم، دون أن أنتبه أن شيئا ما يحدث. سيصرّح كلانا بالحب، وسنكون سعداء جدّا. وستناديني حبيبتك، وسأستمتع بها. سنجلس لنتفق على مستقبلنا المشترك، وسنشعر بالدفء معًا. وسنحكي طويلا عن أشياء قديمة حدثت، وعن أشياء تحدث، وسنحاول الاقتراب من بعضنا بما يكفي للتماهي. سأحكي عنك لأصدقائي في سعادة بالغة، وسأرقب ردود أفعال الناس على ظهورنا معًا بشغف. وسأفرح كثيرا بيدي الساكنة في راحة يدك وبمكالماتك الصباحية الناعمة. سنلتقي كثيرا ويغيّر كلٌ منّا نمط حياته ليناسب نمط الآخر. سنتبادل الأغاني ونسمعها بإهتمام. سيخفق قلبي في رقّة كلما رأيتك، وستحزن كلما حان موعد رحيلي. سأراك في أحلامي كثيرا، وستنزعج من كوني لا آتيك في أحلامك بنفس القدر. سنتشارك تفاصيل كثيرة وسنضحك كثيرا وسننغرس في حياة بعضٍ بشدّة. سأقول كثيرا أنني أحبك وستقول كثيرا أنّك تفعل ..

ولكن هذا كلّه لن يكون الحُب الواضح.

الحب، ياحبيبي، سيكون ليلة باردة مثل هذه تماما، أجلس فيها وحيدة لما بعد الثالثة فجرا، فيما أعرف أنّك نائم، ثم أضبط نفسي متلبسة بالتفكير فيك بدفء وطيبة وأفكر أنني في هذه اللحظة لا أريد سوى أن أراك ونشاهد فيلما معا ثم ننام. في هذه اللحظة، سأقول لنفسي: أنا أحب هذا الولد. عندها فقط، سأدرك الحُب. عندها فقط سأبتسم وأنا أرى طاقة الحب تملأني تماما.

Thursday, January 12, 2012

وينقُصُني السؤالُ، فمن سأسألُ عن عبور النهر؟

الموتُ خيانة وهذا واضح، والحزن مخادع، يقول أنّه رحل ولكنّه يُضبَط مختبئا في ميدالية قديمة أو نغمات مفاجئة أو في وجه الأم. الأدب مرهق، والحب ألطف كثيرا من كتابة نص والبحث عن أشخاص يحملون في أيديهم كتبا ليقرأوه. وكتابة التدوينات أسهل من البحث عن فاتحة وحبكة وتطوّر درامي وأبطال لقصّة لن تكون أبدا بواقعية التدوينة العفوية المكتوبة بالضمير الأوّل. اللعنة على باقي الضمائر. الوساوس مهيجة، ومهتاجة طوال الوقت. واكتشاف عبثية كل ما يحدث رفيق دائم، في حين أن لمعة العينين تبدو مبهجة لكنّها في واقع الأمر مخيفة. الليل قاسي، والوحدة فارغة تفكّر دائما كيف تملأ نفسها، فتختار الطرق الملتوية. القراءة مثيرة والموسيقى موحية، ولكن في آخر الليل يصيبهما الفقر فيبدأون معزوفة التكرار. البرد مهين، والعجز عن التأقلم مع إهانته مهين أكثر. العائلة وهم موروث، وديْن لم يستدنه أحد لكن يجب ردّه. الأصدقاء طيبون، ولكن نفوسهم تخفي أشياء محسوسة ولن يقولها أحد. الحروف مغازلة والكلمات تستدرج والأفكار تطفو في لحظة واحدة ثم تغطس بعيدا. الشعر يفتح ذراعيه دائما ويغلقهما قبل التلاقي، والسجائر يمرر طعمها اللسان وتترك رائحة في أصابع اليد ولكنّها تمرر غضبا مكتوما. النقود ذرات متطايرة، والبشر مولعون بعد الذرات. سائقو التاكسيّات ثرثارون وأغبياء وسائقو الميكروباصات قليلو الكلام وأكثر غباء. العيون تفضح دائما، ولكن الكلام لا غنى عنه. والادعاء حاضر دائما نيابة عن تصريح مرهوب. الذات العليا عبث لا طائل منه، وتنزيلاتها عبث لا طائل منه، والداعون المؤمنون يؤمنون بعبث لا طائل منه. والأكيد، أن لا شيء أكيد. السياسة سلاسل مغلقة على ذاتها تفضي إلى جحيم دوائر لا تنتهي. وكل شيء سيتغيّر، فلا داعي للنظر تحت الأقدام. وكل شيء مبهم، فلا داعي للنظر للأمام. لا داعي للنظر أصلا.

وقد قال محمود درويش معلقا:
كُلُّ شيء باطلٌ ، فاغنَمْ
حياتَكَ مثلما هِيَ برهةً

وسينتهي كل شيء في يوم، وأنا، وحدي، سأبقى.

----------------
* العنوان لدرويش كذلك.

Monday, January 9, 2012

دم الشهدا على الأسفلت

في كتاب رولان بارت عن التصوير الفوتوغرافي يصف الصورة بأنها موت، تجميد لحركة حيّة، هي إذن حيّة برغم موتها الجزئي. لماذا تبدو هذه النظرية صعبة التطبيق على صور الموتى بشكل عام والشهداء تحديدا؟ 

بموت أحدهم، تكتسب الصورة التي تركها خلفه ثقلا رهيبا لا أحتمله عادة. رغم أن الصورة له وهو حي، إلا أنني أستطيع بوضوح أن أرى موته. يتغير شيء في مكونات الصورة. لحظة. أنا أخدع نفسي. لا شيء تغيّر في الصورة، أنا التي عرفت أن أصحابها ماتوا. لماذا نهرب دائما من هذه الحقيقة؟ لقد ماتوا. ولا فائدة من كونهم كانوا يُشعون حياة، حتّى لو كانت متجمدة لحظيا. لقد ماتوا، وهذا ببساطة يصيب صورة الحياة المتقنة في مقتل. 

سنأخذ أمثلة: 
ببساطة، قد أكون عبرت أمامهم وهم يلتقطون له هذه الصورة، فأسرعتُ حتّى لا أظهر فيها. وقد يكون قد ابتسم لي، وسأموت دون أن أعرف إن كنتُ رددتُ له الإبتسامة أم لا. ولكن ابتسامته الخفيفة في الصورة، حلوة جدّا لو كان حيّا، مرهقة جدّا بعد أن ذهب.

لقد مات هذا الولد، رغم أن أصحابه كانوا يدعونه "شقاوة". لم تحمه "شقاوته" من أن يموت. نعم، مات. وعيناه الواثقتان، أستطيع أن أنظر لهما بتحدٍ لو كان حيّا، لكنهما يكسراني بعد أن ذهب.
------

بين صورة ولدٍ في جامعة يحاول أن يبدو فيها وسيما، وولدٍ ذهب للمصوراتي، لأنّه أراد صورة متقنة غير مهزوزة. الأمثلة كثيرة، ولكنّي أشعر بالخزي وأنا أتفحص صورهم. وبصراحة أكبر، أشعر بالتعب.

عندما مات علاء عبد الهادي، فهمتُ أكثر. لم أعرف علاء، ولم أره ولا مرّة في حياتي. ولكنّي رأيتُ رد فعل صديقة كانت مقربة منه. فهمتُ واقتربتُ. الموت يؤلم الأحياء أكثر. أن تفتقد أحدهم وأنت تعرف استحالة رؤيته، يكسر داخلك شيئا ربما لن يُرمَم أبدًا.

كنّا على القهوة. لا أذكر من الذي فتح الموضوع، ولكنّنا وجدنا أنفسنا نتحدث عن الموت. نتحدث كثيرا عن الموت دون أن نعي أننا نفعل. المهم، أننا تحدثنا عن الدفن وحكينا عن ذكريات قديمة. أذكر أنني حكيتُ شيئا عن مقابرنا التي بنيناها حديثا، وكان جدّي أوّل من يُدفن فيها، وتبعه خالي. أحببتُ دائما الاقتراب من غرفة الدفن. أذكر جيدّا في يوم دفن خالي أن أكثر ما أثار انفعالاتي: شكل المقبرة نفسها. المدفن ستة شقوق في الأرض، مقسمين على جزئين: ثلاثة للنساء وثلاثة للرجال. لمّا كان المدفن جديد، فإن كل الشقوق فارغة. وضع جدّي في الشق الأوّل من ناحية اليسار، وسُدّ الشق بلوح الأسمنت الضخم. وبعدها، وضع خالي في الفتحة المجاورة. بقيت فتحة واحدة في ناحية الرجال قبل أن يتم الفتح على جدّي من جديد. يوم دفن خالي، كان أكثر ما أرعبني: شكل الفتحة الفارغة. كنت أنظر لأهلي الواقفين حولي برعب، أنظر للباكين وأصرف عن ذهني كل الأفكار عن الوحشة والفراق. كنت أنظر لزوجة خالي التي عاشت معه أكثر من خمسين سنة، وأنزعج. عندما ذهبت إلى بيتهم فيما بعد، لم يكن المؤلم هو كرسي خالي الفارغ، ولكن كرسي زوجته الموضوع بجانبه. المرعب في الموت ليس الموت ذاته، المرعب فيه هو الصورة المركبة من الفراغ الذي تركوه خلفهم مع وجودنا بجانبه. أصعب ما في الموت: الوَحْشَة العاجزة.

ظلت الكتابة عمّا حدث ويحدث عبئا ثقيلا. لا أرى لي رأيا سديدا أكتبه لأقدم شيئا. أنا أكتب لنفسي، أكتب لأن أفكاري تتضح بكتابتها، ولأنني أحب أن أقرأ ما قلته عن نفسي. لم أستطع كتابة شيئا واضحا من قبل عمّا حدث. كتبتُ أشياء متحايلة على الفكرة نفسها. كنت مشوشة ومضطربة ولا أعرف موقفا واضحا لأحدده. ربما الآن يمكنني أن أهدأ وأكتب، رغم أنني لا زلتُ مشوشة، ولكنّي صرتُ أستطيع إخراج الكلمات.
قبل 25 يناير "الماضي"، لم أكن أفكّر كثيرا في الوطن. كنت أعرف أن البلد متردية لحال مزرية، ولكنّي لم أصدق أن شيئا سيحدث في الخامس والعشرين. في السادس والعشرين كنتُ في التحرير أبحث عن المظاهرة. لا أريد أن أحكي كثيرا عن تفاصيل هذا المرحلة. لم تكن الحياة لي بهذه البساطة، كان كل شيء أصعب. لم أتمكن من التواجد كثيرا، ولكنّي تواجدت بقدر ما استطعت. وفرحت لمّا ذهب مبارك، وقلتُ: هيه، انتهى الموت. ولكنّه لم ينته. ظل شبح الذين ذهبوا بالفعل يطاردني. زادت الأشباح، ثم عاد الموتُ بقوّة في نوفمبر. برغم أنني أصف نوفمبر بأنّه الشهر الأهم لي 2011، إلا أنّه الشهر الأصعب. الحقائق ترسخت: الناس يموتون.
وضح مفهوم الوطن أكثر: أنا لا يعنيني الوطن. لا أعرف أهمية حقيقية لكوني أعتبر هذا وطني رغم أنني لم أختره، ولا أعترف بالقدر، ولا أجد داعيا يجعلني أعتبر مصر أفضل بقع الأرض فقط لأنني وُلدت فيها. ولكنّي فهمتُ شيئا آخر: الانتماء. فهمتُ معنى الصحبة، معنى الأماكن التي تننغرس داخلنا؛ حولت الوطن لمفهوم آخر: إنّه الإطار الذي حدث لي فيه كلُ هذا. فهمتُ أن القتال من أجل حق ما لا يحتاج إطارا يحكمه. فهمتُ جيدّا ما يعنيه صديقي المقرّب من أنّه ينزل للميدان من أجل نفسه. ليس من أجل الآخرين. وفهمت أيضا أنني لا يعنيني الآخرون، أنا يعنيني الذين أحبهم. أنا لا أريد أن أفقدهم. ليس لأنهم يستحقون الحياة، وإن كانوا هكذا فعلا، ولكن لأنني سأفتقدهم بشدّة.

لنعد إلى الموضوع الأصلي. الشهداء. هل قلتُ أن الشهداء ماتوا؟ سأكررها كثيرا. أريد أن أعيها تماما. وبالمناسبة، الشهداء ليسوا في مكان أحسن. لا يمكننا الجزم. كما أنّهم حرموا أهاليهم منهم. وكل ما نقوله محاولات انكار يقوم بها عقلنا الباطن في مهارة.

في أغنية اسكندريلا "الحريّة من الشهداء" أكثر جملة تخيفني: شهدا بييجوا من ماسبيرو .. ويزوروا محمد محمود. عندما أسمع الجملة أفكر فورا في روح طائرة من ماسبيرو تعبر ميدان التحرير ثم تنحرف شمالا إلى شارع محمد محمود الذي تخشى صديقتي المشي فيه حتّى الآن. تخيّل المشهد يرعبني بشدّة، والقشعريرة تصيبني كل مرّة أسمعها. الشهداء ينخزون القلوب كما يفعل أذان الفجر، عليك أن تنهض الآن برغم البرد والرغبة في النوم. عليك أن تقتص لهم.

الشهداء ماتوا .. وربما هذه هي الحقيقة التي نخجل جميعا من الاعتراف بها، يرفض عقلنا الباطن التصديق. نشعر بالذنب تجاههم، ربما لأننا لم نمت مثلهم، وربما لأننا نخشى أن نموت مثلهم. نسميهم الشهداء ونقول أنهم في مكان أحسن. نقول أن دم الشهداء لن يضيع، وأن الله سينصر الثورة إكراما لدمائهم.. ولكننا لسنا واثقين تماما من كل هذا.

إليكم الحقيقة: الشهداء ماتوا، وهم ليسوا سعداء بهذا الموت. الشهداء لهم أهل يفتقدونهم. الشهداء موتى، بينما نحن لا نزال أحياء. الشهداء ماتوا ويمكننا أن نموت نحن أيضا. وكل هذا الموت يصيبنا نحن فقط .. بينما هناك آخرون لا يزالون يتناقشون في جدوى التظاهر، في أحقية الإسلاميين بالبرلمان (بالمناسبة أشعر بنغزة في قلبي كلما حاولت تخيّل شكل أول جلسة برلمان منعقدة بعد الثورة، وأتخيّل أرواح الشهداء تحوم فوقها غاضبة، وأخاف) ، وفي عجلة الإنتاج والاستقرار والمؤامرات الخارجية، وفي نوايا المجلس العسكري الطيبّة. الشهداء ماتوا ياسادة .. نعم .. ماتوا رغم أنهم، ببساطة، أرادوا الحياة ..ونحن لم نقتص لكوننا نفتقدهم، قبل حتّى أن نقتص لرغبتهم المقتولة في الحياة.

واضح؟ عظيم، الآن، يمكننا الحديث عن 25 يناير القادم بأريحية أكبر وبوضوح أكبر ..

Saturday, January 7, 2012

ده البعد ذنب كبير لا يُغتفر

أصطدم بالكثير من الأشياء غير المبررة وغير المنطقية.

مثلا، لا أستطيع أن أجد الشيء الذي يمنعني من العيش مع جميع البشر الذين أحبهم في مكان واحد. ما الذي يمنعنا أن نجد مكانا كبيرا يستوعبنا جميعا؟ لا يحتاج مواصلات، لا يحتاج جهدا لنلتقي.

لا أجد البعد مبررا، ولا أجد سببا يجعل أحدهم يبذل كل هذا الجهد من أجل أن يحصل على لحظة تواصل فطرية. لا أعرف منطقا يبرر كوننا نحتاج لكل هذه الدوائر المخترَعة من أجل أكثر الأشياء بديهية: أن نحب، أن نتواصل، أن نفرح. 

كما لا أجد سببا يمنعني من أغادر بيتنا فجرا، لأزور صديقتي فقط لأنني أريد معرفة رأيها في قصة شعري الجديدة. ولا أفهم سبب كل هذا التعقيدات التي تحول بين أن أتصل به في السادسة صباحا لأنني أشعر بالبرد فيأتي ليضع عليّ بطانية إضافية.

الحياة معقدة أكثر مما يجب. أو ربما أنا التي تطلب منها أن تعطي أكثر مما تستطيعه طاقتها.