Tuesday, December 15, 2009

نصف جنيه فضّة

أنت تعرف كيف يبدأ يوم مقدّر له من البداية أن يكون يوماً سيئاً ..

التضافر الذي حدث بالأمس ليجعل من يومك رائعاً .. ينقلب ضدّك وبنفس الميكانيزيمية العتيدة بطريقة تضيف سبباً آخراً لتلك التكشيرة والوش الأبلكاش والإبتسامة التي نسيتها في درج الشرابات ..

بدون الإستغراق في شرح مكونات التضافر المنقلب .. ولا تعديد الأسباب، يمكنني أن أخبرك وبكل ثقة، هذا سيكون يوماً سيئاً ..

وهكذا، خطوت خارج باب العمارة وعفاريت الدنيا تتنطط أمام وجهي وعلى رأسي وفي داخلها وعن يميني وعن شمالي ومن كل الإتجاهات .. وأنا لا أحاول حتّى وقف تنطيطهم لانشغالي عنهم بإستدعاء المزيد من العفاريت من الجحيم ..

نظرتُ للسماء وللشمس الساطعة بشكل كان من الممكن أن يثير فيّ إحساساً ظريفا بالدفء - في ظروف أخرى - ولكن نظرة أخرى إلى البلوفر الثقيل الذي ارتديته اليوم كانت كفيلة بتحويل هذه النظرة إلى زفرة ضيق رائعة .. أحاول تخيّل شكلي وأنا أنصهر من الحرّ داخل البلوفر .. ان محاولة وصف الجحيم الذي سأعيش فيه بالدفء تشبه محاولة وصف أغنية (العبد والشيطان) -التي أدارها سائق الميكروباص - بالواعظة.

حسنا دعك من كل هذا .. ولنبدأ الحكاية مباشرة ..

كنت قد وصلتُ إلى المحطة التي أتخلى فيها عن الميكروباص الأوّل لأستقلّ غيرَه إلى الجامعة. وكلُ ما معي عشرة جنيهات -ورقة واحدة- ونصف جنيه -فضّة- باقي الجنيه الذي أعطيتُه للسائق. وبينما أقفُ في انتظارِ أحدَ الميكروباصات، كنت أراقب عفاريتي وأضيف إليهم عفريت أن السائق بالتأكيد (هيشخط فيّا) عندما أعطيه العشرة جنيهات وأخبره أن (معييش فكّة) ..

ولكنني بعد قليل انصرفت عن مراقبة عفاريتي لسبب بسيط جدا أنها كانت هناك ..

طفلة سمراء صغيرة الحجم جدّا ..الشنطة الحمراء على شكل (أرنوب) والتي تعلقها على ظهرها توحي بأنها في الـ (كي جي وان) .. أو ربما الـ (كي جي تو) بالكتير .. قسمت شعرها نصفين وجمعت كل نصف في ضفيرة رفيعة على أحد جانبي وجهها فيما اصطلح على تسميته بالـ (القطتين) .. التدقيق في ملامحها قليلا يجعلك تكتشتف أنها ليست جميلة .. ولكن ملامحها بها شئ من براءة الأطفّال ربمّا .. أو لعل له علاقة ببراءة روحها بعيدا عن كونها طفلة حتّى .. شعرها خشن ومع ذلك يتفق مع ملاحها في إعطائك شعور الفطرية والبريّة. إلى جانبها يقف أخوها الأكبر منها.. كيف عرفتُ أنّه أخوها؟ ليس لأنّه يشبهها فحسب .. ولكن لأنها كانت تحتمي به .. وتقلّد كل حركاته بطريقة بريئة جدا .. أخوها هذا بالمناسبة لن يعدو أكبر من (أولى ابتدائي) .. ولكنها كانت تنظر له وكأنه أبوها .. دفعتني تصرفاتها العفوية تلك إلى الإبتسام رغما عنّي .. وشعرتُ أن الحياة ليست بهذا السوء ..

وكان يبدو أن الأمر عويصا جدّا .. وأنّها مشكلة كبيرة .. إذ كان أصدقاء الأخ -من نفس حجمه- يلتفّون حوله .. ويسألون أسئلة من نوعية: دورّت كويس في شنطتك؟ شفت في المدرسة؟ طب هتعمل ايه؟ .. وهو يجيبهم بإجابات من نوعية : دورّت .. فتشت الفصل حتة حتة .. مش عارف شكل العشرة جنيه كده ضاعت خلاص ومش هنطلع الرحلة ..خبط على ركبتيه ثم ضرب يدا بيد .. قلدتّه هي بنفس الطريقة بظبط .. ثم جلسا على الرصيف وبدآ في البكاء ..

إلى هنا، صار الأمر يفوق قدرتي .. اضطررت للكذب طبعا حين قلت : - أنا شفتها بتقع من جيبك وانت ماشي وجيت وراك جري عشان أديهالك .. ربّتُ على شعر الطفلة الخشن وطلبت منها في أدب جمّ : ممكن بوسة؟ .. لتعطيني واحدة جميلة (أووي ).. عبرت الشارع إلى الناحية الأخرى وركبت الميكروباص العائد للبيت بالنصف جنيه الفضّة الذي معي .. كان كلّي ثقة أن ماحدث هو ما كان يجب أن يحدث .. وأنني عندما أخبرك القصة ستفرح ولن يغضبك أنني لم آت لميعادنا .. وأنّ ما فعلته هو الصحّ والخير ..

وكان هذا هو السبب الذي جعلني أضحك وبشدّة عندما اتصلتُ بك وقبل أن أعتذرَ عن عدم قدرتي على المجئ .. يفاجئني صوتك: - أنا كنت لسّه هكلمك أقولّك انّي مش هقدر أنزل .. أبويا خرج من المستشفى النهارده الحمد لله ولازم أبقى معاهم في البيت.