Sunday, July 31, 2011

سجائر

في فيلم I am legend يفنى البشر بوباء كانوا يظنون أنّه سينجيهم. يبقى عدد قليل، بعضهم معافى وهم الأقل، والباقي تحولّوا لوحوش لا تحتمل الضوء. لنفكر في الوحوش التي تعيش في الظلام. نتخيّل شخصا أو وحشا لبث في الظلام طوال حياته، النور هو عدوّه الأشرس. يقضي حياته في الظلام ولا يحتك بالضوء إلا نادرا. كيف سيصنّف الضوء؟ الضوء له ليس كيانا طيبّا على الإطلاق.

أعتقد أنني أمتلك بعض مهارات الخفاش. أتحرك في الظلام بمهارة، لا أخافه. عندما ينقطع التيّار أستطيع أن أجد طريقي دون أن أُسقط شيئا. لا تؤذيني العتمة بقدر ما يفعل النور. نور الغرفة مطفأ ما لم تكن هناك حاجة ملحة للقراءة. يشتكي من يستخدم جهاز الكمبيوتر الخاص بي من أنني أستخدم إعدادات إضاءة منخفضة. النور يؤذيني فعلا. أكره الشمس، ولو كان الأمر بيدي لألغيت النهار من كل مواعيدي ولفعلت كل شيء في الليل. لا أستطيع التركيز ولا المذاكرة ولا القراءة طالما الشمس فوق رأسي. أقدر مجهوداتها في تدفئة الأرض والنباتات والصحة والـ .....الخ، لكنّي لا أحتملها.

ماذا يحدث لخفافيش الظلام أمثالي، أو للوحوش إذا غشى عيونها النور فجأة؟ وحوش الفيلم كانت تجري مختبئة مرّة أخرى في داخل الظلام. أنا أغمض عينيّ بشدّة، حتّى ينتهي السبب الذي أضيء النور لأجله، ثم أفتحهما في الظلام مرّة أخرى.
والفقرتان الأخيرتان تحملان المعنيين الحقيقي والمجازيّ.

هناك فكرة كليشيهية يرددها الحالمون بغد أفضل ومستقبل مشرق والذين يأملون في حياة طويلة وسعيدة -شوف الإفترا بتاع البني آدمين- ويؤمنون أن "كلّه خير". يقولون دوما أن : السقوط، أو الإنحدار علامة للصعود من جديد. وأن لكل جواد كبوة. وأن الحب الحب الشوق الشوق. أن كل هذه الكآبة ستجعلني أقوى. أحترم تماما كونهم يتألمون لي، كونهم يأملون في غد أفضل فعلا، أنهم ليسوا أشرارا. ولكن عند أي محاولة لاقناعي بهذه الأفكار لا يكون على لساني وقتها سوى كلمة بذيئة شهيرة من ثلاثة أحرف.

زميلاتي في الكليّة لم يكففن عن دعوتي للذهاب لصلاة الظهر معهم، إلى أن أخبرتهم بحدّة في إحدى المرّات أن يدعنني وشأني وأنني لا أصلي. في ساعة صفاء مع إحداهن بعدها، سألتني بود عن السبب. كان الحوار لطيفا، وكانت البنت متفهمة إلى حد كبير قبلها. عندما سألتني هذا السؤال، ترددت قليلا ثم قلت لها بلطف أنني لديّ بعض المشاكل مع الأديان ومع الله. هزّت رأسها في تفهم وقالت:" الشك مرحلة مهمّة من مراحل الإيمان". شتمتها في سرّي، ولم أكلمها من بعدها.

لماذا يفترضون دائما أنني سأعود لطريقهم؟
يقولون أن الحياة تمُر. يقولون أن الشخص الحزين لا يمكنه أن يرى ما بعد حزنه. وأن من داخل الإكتئاب تأتي الفرحة. وأنا أقول: اذهبوا جميعا للجحيم. 

تحكي كارن أرمسترونج في كتابها :"الله لماذا" أن بعض القبائل البدائية في عصور قبل التاريخ اعتبرت الصيد طقسا مقدسّا. على الفتى الذي يعبر من طور المراهقة إلى طور البلوغ حتّى يصبح رجلا قادرا على ممارسة شعائر الصيد أن يمر بعدد من الطقوس. "عليه التخلّي عن تبعية الطفولة وتحمل أعباء النضوج بين عشيّة وضحاها. ومن أجل بلوغ هذا الهدف، يُحتجز هؤلاء الصبية في مقابر، يدفنون في الأرض، يقال لهم إن الوحوش على وشك أن تلتهمهم، يجلدون، يختّنون، يوشمون. وإذا سارت طقوس التكريس على النحو الصحيح، سيُجبَر المراهق على التعرف على إمكانيات باطنية لم يكن يعرف أنه يمتلكها. يخبرنا علماء النفس أن هول تلك التجربة تتسبب في اختلال نكوصي للشخصية، الذي، وإذا تم التعاطي معه بمهارة، سيؤدي إلى إعادة تنظيم بنّاء لقوى الشباب".

كتبت في هامش الكتاب بجانب هذه الفقرة:"وإذا لم؟"سيظل الشاب في هذا الإختلال النكوصي إذن. وإذا أحب العيش في الأنفاق؟ إذا لم تعجبه قدسية الصيد؟ إذا استعذب البقاء في هذه المرحلة الإنتقالية، أو صار لا يريد أن ينتقل لما بعدها؟ ويل سميث في الفيلم كان يريد مساعدة هذه الكائنات. يجري تجارب ليعيدها لطبيعتها. ليعيدها للنور. لكنّ هذه الوحوش، Dark seekers لا تريد. تهاجمه دائما وتريد أن تقتله لتشرب دمّه.

أولى خطوات التفكير العلمي الشهيرة هي "تحديد المشكلة". أن نعرف أن هناك مشكلة؛ نصف الحل. أظن النصف الثاني هو: الرغبة في حل المشكلة. لا تذكر خطوات التفكير العلمي الرغبة في الحل كإحدى الخطوات، يفترضون أنّ إدراك المرء لوجود مشكلة سيدفعه لحلّها. وهو ما أثبتت تجربتي العمليّة خطأه للأسف. أنا أدرك أن هناك مشكلة، أعرف أبعادها جيدّا، ولكنّي كلما فكرت في الإنتقال للخطوة التالية أجدني لا أريد فعلا. ليست حالة من حالات السعادة بكوني ضحيّة. أنا لستُ ضحيّة. ليست حاجة إلى لفت الإنتباه، أنا على العكس أريد ألا يلتفت إليّ أحد.

أنا لا أريد. هذه هي المشكلة بمنتهى الإيجاز. لا أريد. فقدتُ اهتمامي بالعالم تماما. فقدت اهتمامي بذاتي أصلا. لا شيء يصنع لي فرقا. هدفي من الحياة ألا أنتحر. ولكنّ ذهني صار خاليا تماما. لا ردّ عندي على أي شيء. كغريب ألبير كامو. لا شيء يهم. سألتني بنت عمّي "يعني انتِ لو متِ دلوقتي عادي؟" كانت تسأل السؤال من منظور ديني، أنا لم أرد صدمها في مفاهيمي الدينية فصمتُّ. ولكنّي فكرتُ في السؤال بشكل عام. وجدت أنني لو متّ الآن سيكون "عادي" فعلا. لم أحزن للفكرة، ولم أفرح بها. لا يهم.

هناك أشياء طيبة في الحياة. لكنّي لا أهتم لهذه الدرجة. لا أبالي. وعندما أموت لن أشتاق لشيء. نتحدث عن حبنا للحياة من داخل قوقعة الحياة، نحن نحبّها ونحن داخلها. إذا خرجنا لن يُصبح لها معنى. وأنا لا أريد أن أموت، ولا أريد أن أعيش. عادي، الأمر لا يصنع فرقا على الإطلاق. ليس لديَّ ما يجعلني ممتناً لك أو لغيرك. كل طموحي أن أبقى وحدي سليماً وأن يذهب العالم كباكيدج إلى الجحيم"*. ولكنّي حتّى لا يعنيني أن أظلّ سليما معافى.

في إحدى مرّات بحثي عن سبب للعيش من أجله، كنت هادئة ومنبسطة نوعا ما. قلتُ ليكن الهدف أن أعرف الحقيقة. وجدتها جملة كليشيهيّة ولا أصدقها. قلت لتكن أن أعرف بغض النظر عن الوصول. لم أتحمّس. ثم انتهيتُ لأن يكون الهدف هو أن أستمتع. "المتعة". وفرحتُ قليلا وقتها. وجدته هدفا لطيفا لا يكلّف الكثير من العناء ويضع قاعدة عريضة يمكن قياس كل شيء عليها ببساطة. هل هذا سيمتعني؟ نعم؟ عظيم، إذن لنفعله. لا؟ إذن فاكس. بدت مسكنا مزمنا لطيفا يمكن التعايش معه. الكارثة المخزية والمهينة هي أنني اكتشفت عدم وجود أشياء تمتعني أصلا.

لهذا السبب تحديدا، قضيتُ أياما طويلة في السرير نائمة. أو أتناوم. أستيقظ صباحا، أفكّر كثيرا جدّا فيما أفعله. أبحث كل الأشياء التي سأفعلها عندما أنهض، أدرس كل الإحتمالات جيدّا؛ كلّها مملة للغاية. أحتاج سببا قويّا يقنعني بالخروج من باب الشقّة للعالم القذر بالخارج، للخروج من باب الغرفة للشقّة المليئة بالتفاصيل المملة، خارج السرير للغرفة المليئة بكآباتي. ودائما لا أجد هذا السبب فلا أنهض. أدخن حياتي كسيجارة لا تنتهي ولا تهمني. أحرقها بنفس الكيفية ولا أحزن عندما تحترق. أدخنها بلا إهتمام. كلما حاولت قراءة كتاب جديد وجدت الأمر يحتاج مجهودا أكبر من قدرتي، فأتركه. أقرأ نفس الكتب التي قرأتها من قبل. أو للدقّة العلميّة، لا أقرأ سوى كتابا واحدا: رسائل مصطفى ذكري. ولدقّة أكبر أقرأ منه فقرتين فقط. عندما أستيقظ من النوبة، أكتشف أنني قضيتُ حوالي نصف ساعة أقرأ نفس الفقرتين. حفظتهم بعلامات الترقيم وبالتشكيل. فصرت عندما لا أكون أقرأهم بالفعل، أرددهم في ذهني. أسبحهم.

لو تُركت لنفسي ولحالي سأفعل شيئين لا ثالث لهم. قهوة وسجائر. حتّى البكاء صرت لا أستطيعه. يضيق العالم، ويجلس على صدري ولا تنزل دمعة واحدة. تركني أهلي في يوم وخرجوا جميعا وباتوا عند خالتي. ماذا فعلت طوال اليوم؟ فتحت الثلاجة أكثر من مرّة لأقنع نفسي أنني يجب أن آكل ثم أغلقها وأشعل سيجارة وأصنع فنجان قهوة. في الثانية ليلا، كنت انتهيت. أدركت أنني إن لم آكل شيئا ربما أنهار فعلا. أحسستُ بالعجز وبالإهانة. كنتُ وحدي تماما. اكتشفتُ أنني أشغل نفسي طوال الوقت برغبتي في أن أكون وحدي، وعندما صرتُ وحدي صدمتني وحدتي. ليس لأي سبب اجتماعي. لم أكتشف حاجتي المفاجئة للبشر مثلا، اكتشفت فقط أنهم يشغلوني. في وقت مثل هذا أكون منشغلة بانزعاجي منهم، أما وقد صرتُ وحدي فلا شيء يشغلني. قرأتُ وكتبت ونمت وفعلت كل شيء وبقِي العالم ثقيلا. العالم الفارغ من حولي يحيلني لفراغي الداخلي. يحيلني لعدم رغبتي فيه.

مصطفى ذكري يلخّص كل مآسي حياتي في فقرتين، أنا تافهة ووضيعة لدرجة أن تتلخص حياتي في فقرتين:

"لم أكن أتخيل وأنا صغير أنني سأقع في كل كليشيهيات الكاتب التي قرأتُ عنها بشغفٍ وتمنيتها بسذاجة وكأنها كانت تمثل لي تذكرة دخول وجرن معمودية الأدب. الوحدة، الخوف، السوداوية، النفور الشديد من المسؤولية، المرض، التفكير في الموت، الإخفاق في الحياة، الولع بالحب والفشل، قائمة طويلة تعود دائما بتوزيع مختلف، نوتة واحدة، وسولوهات عديدة. والسؤال المعذِب والمدوِّخ للروح. هل كان هذا الوقوع حتميا ولا مفر منه؟ وإذا كان، هل هذه ضمانة يمكن الوثوق بها للوصول إلى فنيّة التعبير؟وهل تلك الفنيّة مرتبطة بصدق الكليشيهات نفسها ومدى الانغماس فيها؟ وهل هذا الانغماس حُجة على فنيّة التعبير؟ أليس هناك كثيرون مروا بمرض نيتشه لكنهم لم يعبروا مثله؟ ألا يصح كما يقول نيتشه بأنه من داخل المرض يأتي التعبير عن عنفوان الصحة البدنية والعقلية؟ ولكن ألا يهدم كتاب نيتشه "هذا هو الإنسان" مقولته عن الصحة التي تشدق بها؟ وأين نضع البارانويا المخيفة في هذا الكتاب موضع الصحة؟ السؤال لا ينتهي والجواب محال."

"قدري أنني تأثرتُ بأشياء تجرعتها وحدي إلى حد المرض. أكدي لي أن شيئا سيدوم بيننا. هذا العالم لا يعنيني. فقط شئ ثابت، شئ واحد أحيا من أجله، لا أريد الكثير، بل أقل القليل. لا أرتاح كثيرا لصيغة النجاح، الناجح شخص انتهازيّ، والفشل لطمة وجودية كريمة على وجه لن نعرفه أبدا. دعيه يسقط في سلام. ما زال الخروج من البيت عصيا عليّ، لكنني أحتمل البقاء ببعض الأفكار."

السؤال لا ينتهي والجواب محال. قدري أنني تأثرتُ بأشياء تجرعتها وحدي إلى حد المرض. فقط شيء ثابت، شيء واحد أحيا من أجله. هل كان الوقوع حتميا ولا مفر منه؟ ما زال الخروج من البيت عصيا عليّ.هل تلك الفنيّة مرتبطة بصدق الكليشيهيات نفسها والانغماس فيها؟دعيه يسقط في سلام.

أريد قهوة وسجائر ومكانا خاليا من البشر. ولا أريد كتبا؛ حفظت الفقرتين عن ظهر قلب.

------
* من: أن تكون عباس العبد - أحمد العايدي

Activate

صحيت من النوم النهارده بحالة نفسية وجسدية وحشة. رجليّا مشدودة جدّا مش عارفة أدوس عليها، وعندي صداع رهيب وعضم جسمي كلّه بيوجعني كل ما بحركه. أول ما صحيت افتكرت كل اللي حصل امبارح، فاتضايقت. رغم انّه نظريا يوم كويس تماما، بس حسيت بحاجات تقيلة على صدري. فكرت انّي عايزة أقطع علاقتي بكل الناس اللي أعرفها، انّي عايزة أسيب الكليّة، انّي عايزة أسيب البلد، وانّي عايزة أشرب قهوة. ماما بصتلي بصّة احتقار محترمة لما دخلت المطبخ. قايمة من النوم الساعة 2 الضهر بعد ما همّا كانوا خلصوا كل الترتيب والترويق والتنضيف والطبخ والغسيل، عشان عيلة البنت اللي أخويا خطبها جايين يزورونا. غيرت رأيي وقلت مش هعمل قهوة، هتاخد وقت والبوتاجاز عليه حاجات لو شلتها ممكن تطردني من البيت وأنا لا شغلة ولا مشغلة والجو حر جدّا دلوقتي ممكن أموت خليها تطردني متأخر شويّة. سألتها ممكن أعمل نسكافيه؟ بصتلي بطرف عينيها وقالتلي ما تعملي حد كلمك. كنت عايزة أقولها ان عيلة خطيبة أخويا اللي ما بيكلمنيش عشان بسمع أغاني ما يخصونيش في حاجة، وانّك تطلعي الترابيزة اللي جوّه برّه وتمسحي السيراميك وتعملي نوعين رز وتحمري فراخ في الحر ده كلّها بالنسبة لي تفاصيل تخصكو انتو ولا تعنيني أنا في شيء. بصتلها شويّة كده، وبعدين الميّة كانت غليت في البراد الكهربا فصبتها وخرجت. دخلت القوضة وفي ركن السرير شربت النسكافيه. سألت نفسي: عايزة ايه؟ قعدت أفكر كتير أنا عايزة أعمل ايه دلوقتي. عايزة أعمل ايه بكرة. عايزة أعمل ايه في المطلق. بس ما عرفتش. مش عايزة حاجة. عايزة قهوة وسجاير وحتّة مافيهاش شمس وحر وبني آدمين. عايزة أحبني ممكن. عايزة أحب أي حاجة. زمان لمّا كنت بعرف أنبهر، الحياة كانت ألطف. دلوقتي مافيش حاجة ليها طعم ولا قيمة. أنا مش عارفة يعني ايه أبقى "سعيدة". السعادة بالنسبة لي دلوقتي انّي ما أبقآش عايزة أموت. بس. التصالح مع الآخرين معناه انّي ما أعرفهومشي. قمّة التصالح مع حد انّي أقطع علاقتي بيه. قمّة الإستقرار النفسي انّي أحب أقعد مع نفسي. أو ما أكرهشي أقعد مع نفسي. أو ما أكرهشي حاجة أصلا. أنا زهقت.

Thursday, July 28, 2011

طاقة سلبية




 الصورتان توحيان بحزن شديد، أليس كذلك؟
لا أدرِ لم. عندما رأيتُ الصورة الأولى لجون لينون، نظرة عينيه والسيجارة في فمه، قُبض قلبي. تذكرت حوارا قريبا مع صديقي. كنت أخبره أن التدخين غير مضر بالصحة. أو أنّه يضر بالصحة ولكن عند الستين والسبعين، وهذا زمن بعيد. أمن على كلامي مستشهدا بنجيب محفوظ الذي جاوز التسعين وهو مدخن شره. عندما رأيتُ صورة جون لينون، قلتُ لنفسي وكإنّي أكمل حواري مع صديقي:"أو يمكن لحياتنا أن ننتهي بشكل عبثي بدون أن نتدخل قبل أن تبدأ صحتنا حتّى في الإعتلال للتدخين". استدعت الصورة كل مشاعري السلبية تجاه موت لينون، كل الحزن وراء قصّة موته، كل الحزن وراء لينون نفسه بأفكاره وأغانيه وحبّه وقتله.

بعدها مباشرة، شاهدت الصورة التالية. هبط الكون كلّه فوق صدري. البنت ملامحها حزينة بشكل غريب، تبدو محبوسة مع هذا الشخص، الذي يريدها بشدّة. هي تعطيه ظهرها منكمشة على نفسها وهو يحبّها ويحاول أن يقنعها أن تظل معه. تبدو وكأنّها تدعي كل هذا. أدركتِ أنّك ستبقين وحيدة، حتّى عندما يشاركك أحدهم الفراش. ليس للأمر علاقة بالحب، ولا بالعلاقات، ولا بأي شيء. ليس ذنب أحد، لا أحمل أحد مسؤوليتي. أنا فقط أجد العالم غير مناسب لي. وأنا وحدي المسؤولة هنا عن كل هذا التخاذل عن تركه. أنا المسؤولة عن هذه النظرة السوداوية لكل شيء. الصورة قد توحي بأشياء ألطف. قد تكون صورة إيجابية. أنا التي تملك كل هذا الأسى، وكل هذه الطاقة السلبية تجاه الموجودات.

Wednesday, July 20, 2011

الله/الشيطان الذي يكمن في التفاصيل

حافظ وودي ألن على معدل ثابت لإنتاج أفلامه منذ عام 1969. فمنذ 40 عام، ينتج فيلما كل اثني عشر شهرا.  يرى ألن لهذه الصرامة في عملية إنتاج أفلامه أهميتها، ليس على أي صعيد إبداعي؛ ولكن ببساطة لأنها تشغل عقله عن تأمل قدره المحتوم. "عندما تكون قلقا بشأن هذه النكتة، هذا الزيّ، هذا النقد، موقع التصوير، ماتقوله الصحف؛ لن تفكر كثيرا في الموت وقِصَر الحياة.*

في فيلمه Whatever works يقدّم ألن شخصية بوريس العالم الذي عرف كل شيء، فلم يعد يُبالي. بوريس بالرغم من هذا له نوبات ذعره الليلية، له سخريته من البشر، كراهيته للغباء، هذه الأشياء اللطيفة المستأنسة. وبوريس يحافظ على روتين ثابت لحياته. يغنّي لنفسه أثناء غسله يديه أغنية عيد الميلاد، ويحتفظ بروتينية تمنح نفسه الإستقرار الذي يمنعه من الانهيار.

حاولت أختي أن تصلني بالعالم خارج غرفتي. جلست على السرير، ولمدّة نصف ساعة، تحدثت عن مشاكل العائلة. حدثتني عن هؤولاء الذين يجب دعوتهم لخطوبة أخي، وهؤولاء الذين لا يجب دعوتهم. وكيف أن المدعوين سيخبرون غير المدعوين "وتبقى فضيحة". أخبرتني عن الحسد، عن لون السجادة الذي صار لا يتناسب مع لون الأنتريه بعد تجديده، عن الـ "شفشق" الجديد الذي اشتروه من أجل "خشاف" رمضان، ثم سألتني هل درجة لون الطرحة الجديدة التي اشترتها هي نفسها درجة لون الوردة في البلوزة أم لا. أنا لم أرد؛ اكتفيتُ بالانبهار.

في رواية فيرجينيا وولف "السيدة دولوواي"، هناك هذه السيدة التي تُعد حفلا ما. وهذه الفترة التاريخية كلّها حوت هذه السيدّة. وهي موجودة حتّى الآن. الإهتمام المفرط بالتفاصيل. كل تفصيلة مهما كانت صغيرة لها أهمية كبيرة. وهذه السيدّة ستفعل كل شيء، حتّى أنّها ستشتري الورد بنفسها. في مقال مايكل كاننجهام عن رواية الساعات، أشار إلى أن أمّه كان يمكنها أن تقضى نصف نهارها لتختار مناديل المائدة المناسبة للحفل. كان تحضر كل وجبة بشكل رائع، ولكنها تظل قلقة إن كانت أخفقت.

يقولون أن: "الشيطان يكمن في التفاصيل". الويكيبيديا الإنجليزية تقول أن هذه العبارة مشتقّة من عبارة أخرى، أؤمن بها أكثر، تقول بأن "الله يكمن في التفاصيل". دعونا من الله. لنقل أن التفاصيل تقينا الانهيار. التفاصيل تشغل عقلنا عن التفكير في مآزقنا النفسية والوجودية. لنقل أن التفاصيل تستطيع أن تتعامل بشكل جيّد مع صدوع النظريات التي تحكم وجودنا الإنساني، أو حتّى على مستوى أبسط: التفاصيل تقينا التقاء أنفسنا، أسوأ ما يمكن لأحد أن يلقاه. لو تعاملنا مع "الله" على اعتباره اليقين الذي يُريح البشر سيكون للعبارة عُمق آخر.

كنت في شوارع وسط البلد أحاول أن أقنع نفسي أنني أنثى طبيعية، تتسوّق وتشتري لبسا جديدا. ركزتُ جدّا في تفاصيل درجة لون الوردة مع درجة لون الطرحة. أتممتُ نصف المهمة بنجاح، وهذا كان إنجازا. كانت الساعة مازالت الثالثة عصرا. اتصلت بصديقتي لعلمي بتواجدها في الميدان معظم الوقت؛ كي أراها. كان معها صديقة وصديق آخر. ضحكنا وتكلمنا. انخرطت في تفاصيل صغيرة معهم. اتفقنا أن نلتقي صباح اليوم التالي لنكمل حديثنا. التقينا. بدا لي العالم بسيطا. هيه، أنا ألتقي أصدقائي، أنا أتحدث في التليفون، أنا أنخرط في تفاصيل الحياة المعاشة وأفكر في لون الوردة، أنا لم أسأل نفسي عن مأزقي الوجودي. ليلتها قلت لصديق آخر أن مزاجي رائق بدرجة مريبة. بدا لي أن الحياة يمكنها أن تستمر هكذا. تخليت عن مكاني المعتاد في ركن السرير أو أمام الكمبيوتر، وشاهدت معهم في البيت فيلم كارتون وضحكت. ثم في الليل، نزلتُ بصحبة اخوتي البنات لشراء أشياء ليس لها أي فائدة. وأديتُ ببراعة، فاشتريتُ أحمر شفاه وبنسا للشعر وشرابا.

كُنّا على وشك الخروج من المحل، عندما التقيتُ زميلة من زميلات الكلية. لا أحبها كثيرا. أراها ضحلة ولا تصلح لشيء وتستفزني طريقتها في الكلام، وأعرف أنّها تكرهني لأنني أحصل درجات أعلى منها. كانت بصحبة ولد لطيف وواضح أن بينهم شيء. سلمت عليّ بطريقة مفتعلة، ثم قالت جملة ليس لها مبرر سوى أنّها تريدني أن أعرف:"لسّه راجعة من الشغل ومبهدلة". حسنا، أنا لم أسألها. وهي لم تكن "مبهدلة". سألتها:"بتشتغلي فين؟". عرفتُ أنّها تعمل في شركة ذات اسم أجنبي لبحوث التسويق. وأن مرتباتهم "حلوة أوي". وأنها تقبض 2000 جنيه في الشهر. وقالت في النهاية بلهجة استعراضية:"لو عايزة تشتغلي قوليلي". سألتها عن طبيعة العمل فقالت أشياء عن النزول للناس ومعرفة رأي العميل في المنتج. تفاصيل تستغرق كلّ حياتها. قالت:"همشي عشان معايا ناس .. معاكِ رقم تليفوني ومعاكِ الفيس بتاعي .. ابعتيلي". لم يكن في بالي سوى جملة واحدة "يابنت الكلب!". 

في ميكروباص العودة، كان سائقه قد أضاف إليه تقنية جديدة تتيح له أن يُرينا الفيديو كليب بالإضافة لسماع الأغنية عن طريق شاشة صغيرة على الكبّوت. كانت أغنية لتامر حسني. وكان يخبر الموديل المبتذلة معه أنّها ستكون أطيب وأرق وهي أم. والجو ملائكيّ، وكل التفاصيل بيضاء. والحياة في منتهى الوداعة. تذكرتُ شيئا قديما عن الأغنية، فكرتُ في وجهة نظري في الزواج والإنجاب وهذا الهُراء. وفي البيت، طلبت منّي أمّي بحدّة تقترب من الأمر ألا أستخدم أحمر الشفاه في خطوبة أخي، "حرام.. ومش عايزين فضايح قدام الناس".  


في فيلم وثائقي عن الأنظمة الرقمية وشبكة الانترنت، أشاروا إلى أن في المستقبل القريب، وهذا بدأ بالفعل، سيتم استبدال كل الوصلات التي تدخل للبيت بوصلة واحدة. تعطينا الكهرباء، ومسؤولة عن تزويد التليفزيون والتليفون الأرضي، وستصلنا كذلك بالانترنت. كانت الإشارة إلى ما يجري من ربط لكافّة أنظمة الاتصالات في العالم في شيء واحد وعبر شبكة واحدة. شبكة واحدة محكمة تماما تحوي كل التفاصيل ومعنيّ بها عناية فائقة.

مشكلة هذه الشبكة سيكون شيئا واحدا، ولكنّه كارثيّ. ماذا إذا حدث عُطل؟ ببساطة، سينهار كل شيء. تماما كما في فيلم Inception. سينهار كل العالم الذي خلقته لنفسه. خبطة واحدة في الجدار، يتحطّم على رأسك وعلى رأس اللي خلفوك. ولأنّه نظام متكامل، ومتشعّب، وأجزاؤه مرتبطة ببعضها، الخلل في جزء يعني سقوط الشبكة. أي خلل يصيب القلب مباشرة؛ أنا ذاتي. لم أستطع أن أقول لنفسي بعد لقاء البنت: عادي، أنا كويسة، أنا بشتري "روج". أعادتني بفجاجتها للواقع، لواقعي. انتبهت أنني وهي في نفس المحل، أنني أفعل أشياء فجّة مثلها، أنني لن أقبض نصف هذا المرتب الذي تقبضه، وأنني لا أنتمي لهذا العالم الذي يدفعون فيه 2000 جنيه من أجل معرفة رأي عميل لا يهتم في منتج حقير. 

التفاصيل عظيمة.ولكن إن لم تُنجَز بالكفاءة الكاملة ستحطمني أنا نفسي. عليّ أن أختار كما لورا في رواية الساعات.  إما أن تكون قادرة وإما ألا تبالي. لا توجد حلول وسطيّة. إما أن أنجح في أن أجد نفس درجة لون الوردة وإلا سأسقط. لورا نجحت في صناعة التورتة في المحاولة الثانية، وتركت البيت بعدها بأشهر. أنا أنجح أحيانا، ولكنّي لا أمتلك مهارة لورا وصبرها. ولا أريد أن أصنع التورتة أصلا.

"نحن هنا على الأرض، ولا علاج لهذا". بحسب تعبير صمويل بيكيت. لا علاج لهذا فعلا، لابد أن أنجح في الإنغماس في التفاصيل أو أترك كل شيء. أصنع التورتة أو أترك البيت. أجد درجة اللون أو أخلع الحجاب. أتزوج كما يتزوجون أو أهاجر وأترك البلد. لا حلول وسطيّة. ويبدو أنني أفشل دائما، بنجاح مبهر، في أن أنغمس في التفاصيل. أظل على الحافّة. أهز رأسي في تفهم وأنا لا أسمع حرفا مما يُقال. وأحاول ايجاد درجة لون الحجاب في حين أنني فعلا لا أهتم إطلاقا. ثم أنهار في النهاية مع أول لقاء مع زميلة ضحلة وأغنية لتامر حسني. فأعود لركن السرير لأبكي وأعيد مشاهدة الفيلم الذي حفظته؛ خوفا من تجربة فيلم جديد.

شيطاني يكمن في التفاصيل، وإلههم يكمن فيها. ولا تقاطع بيننا.


------
* بتصرّف. المقابلة كاملة هنا.

Saturday, July 16, 2011

نغنّي

اليوم ظهرتُ نتيجة الثانوية العامّة. أختي في السنة الثالثة، وكنّا ننتظرها بقلق. ظهرت النتيجة وأختي حصلت على الدرجات التي تمنتها واشترينا الآيس كريم وشربنا شربات المانجو. كل هذا لم يمثل لي احتفالا. الاحتفال الحقيقي كان عندما غنينا. بدأتُ أنا بـ "زغروطة" طويلة، ثم غنيتُ أغنية النجاح المعتادة: "الناجح يرفع ايده". أمي وأختّي الأخرى استجابتا؛ استخدمت أمّي الدولاب كطبلة، في حين أخذ الباقي يصقف. زغردنا، وغنينا، ثم أخذتني الجلالة ورقصت. ولإننا نسكن في منطقة هادئة نوعا ما في الليل، فكنتُ أعرف أن صوتنا "مسمّع". وأعقبنا أغنية عبد الحليم بأغنيات أخرى نحبّها في البيت. ـ

كنتُ فرحانة. وكان لي زمن لم أغن مع أحد. الناس يعتبرون الفضفضة أهم، يعتبرون الخروجة خروجة عندما نتحدث كثيرا. أنا، وهذا اعتراف، أعتبر الخروجة خروجة إذا غنينا. أحب الغناء الجماعي جدّا. والرقص كذلك. وعندما أقترب من شخص جدّا أحب أن أغني معه. ـ

أغنّي مع صديقاتي، وأغني كثيرا وحدي. الغناء أحد الأشياء القليلة غير المبتذلة في الحياة؛ وأعني هنا غناءنا لأنفسنا وللذين نحبهم ومعهم. الغناء معا يشبه الصمت معا؛ من أعلى لحظات التواصل الإنساني. يضبط كلٌ ايقاعه على إيقاع الآخر، نغنّي نفس الأغنية، نستشعر اللحن والكلمات، نتبادل الكوبليهات، ونحافظ على درجة صوت متقاربة ؛ وكل هذا دون أن نتفق. هل هناك تواصل أعمق؟ إذا غنينا معا، ونجحنا في أن نغني الأغنية كاملة ثم نظر كلٌ منّا في عين الآخر بخجل فطري؛ ماذا نحتاج أن نقول أكثر من هذا؟

خلص الكلام؛ خلينا نغنّي. ـ

Tuesday, July 12, 2011

هُوَ

وهو عندما أدرك أن الجميع راحل بناء على طلبي. وأنّهم يتزاحمون الآن للهروب بعيدا عن عالمي عبر فتحة الطوارئ الضيقة، جاء إليّ ونظر جيدا في عيني وقال: لقد ذهبوا جميعا. لن أذهب. سأبقى معك. ثم أتى ببطانيته الوحيدة. وفرشها على الأرضية الباردة وقال لي هيّا أعلم أنّك متعبة وبحاجة للنوم. دعينا ننام الآن ولنكمل حديثنا في الصباح. واحتضنني ونمنا نوما طويلا. ـ

سقوط حر

أسقط، وهو ليس حلما للأسف. أعني تماما الأربعة أحرف حرفا حرفا. "أسقط". أكررها لنفسي كتسبيحة. في الشارع، قبل النوم، خلال استماعي لمناقشة، وأثناء تقوقعي على نفسي في ركن السرير. ـ 
ماذا يحدث إذا ألقينا جسما من على تل مرتفع؟ نظريّة السقوط الحر، وهي نظرية علميّة شهيرة، تقول أن الجسم الساقط، بإفتراض انعدام مقاومة الهواء، وبفرض أن سرعته الإبتدائية كانت صفرا، ستزيد سرعته كل ثانية بما يساوي قيمة عجلة الجاذبية الأرضية، بحيث تصل لقيمتها القصوى مباشرة قبل اصطدامه بسطح الأرض. ـ 
لا أرض تحت قدميّ أقف عليها. لا شيء ثابت من حولي. كأن الأشياء تتحرك عنّي مبتعدة، والحقيقة أنني أنا التي تسقط. الأشياء ثابتة، أنا أراها ترحل عنّي.. أنا التي ترحل نحو القاع. القاع البعيد. سأملّ وضع السقوط قريبا، أريد أن أصطدم بالقاع. أن تزيد سرعة سقوطي لقيمتها القصوى فأصطدم بالقاع وآخذ أكبر جرعة ألم ممكنة. ـ 
المشكلة أنني لا أعرف أين سطح الأرض، لا أعرف عمق الحفرة. ولكنّي أسقط ولا شيء يقاوم سقوطي. والهواء المحيط ينظر إلى سقوطي، ويلومني عليه بدون أن يقاومه. وأنا فعلا لا أريد منه أي مساعدة. كل ما تستطيع المقاومة فعله هو تأخير السقوط، لكنّه حتميّ. وأنا أريد القاع. ـ 
وفي رحلة السقوط، لا شيء مسل. أمل الكتب، الناس،الشوارع، الأفكار، الكلام، الصمت، الموسيقى، أملّ نفسي. ألقي بالأشياء تباعا، وأنظر للأشياء القليلة الباقية معي بغربة. وأنظر للأشياء التي تدعي الثبات، في حين أنّها من وجهة نظري تبتعد، بغير فهم. وكل ما أفعله هو أن ألاحظها، وأكتب، ثم أمزّق ما كتبته. ـ 
عندما أصل للقاع، سأنظر للجبل الذي سقطت منه، فلن أرى شيئا. سيزيف كان غبيّا. لو كنت مكانه، وسقطت منّي الصخرة، لرميتُ نفسي وراءها. عندما أصل للقاع، لن يكون للجبل معنى. السقوط حُر، ولكن الطيران يحتاج مجهودا. وأنا لست طائرا على أية حال، ولا أريد أن أكون. ولا أريد أن أعود. سيكون الجبل جدارا تافها لا معنى له. عندما أصل للقاع، سأنظر لكل الثوابت وأنعتها بقلة التجربة. عندما أصل للقاع، سأنعت الجبل بالجمود، والبشر بالغباء، والقدسية بالافتعال. ـ

Sunday, July 10, 2011

حلم بفتاة افتراضية

إمعانا في الأحلام الغريبة غير المفهومة، كان لديّ واحد ممتع الليلة السابقة. في الحلم، بنت أعرفها بالإسم فقط. لم يحدث أن تبادلت معها حوارا شفويا إلا مرّة واحدة منذ سنوات طويلة وهي غالبا لا تتذكره، وهو ليس بهذه الأهمية أصلا. أراها مرّات قليلة من بعيد في بعض الاحتفاليات. علاقتي بها تنحصر في الفضاء الافتراضي كلية، وهي حتى في هذا الفضاء علاقة عابرة تماما. أحبها، ولكنه حب لا يعني شيئا على أي حال. أتابع ما تكتبه، أتابع نشاطها على الفيس بوك، تعلّق عندي قليلا. وشكرا، لا أكثر ولا أقل من هذا.ـ
في الحلم، انتقلت أنا وهذه البنت إلى شقة مشتركة لنعيش فيها معا. كنتُ لا أعرف شيئا إطلاقا وهي علمتني كل شيء. كنتُ أنظر لها وهي تشعل سيجارتها، ثم أشعلها مثلها. أشاهد الطريقة التي تتحرك بها وأقلدها. كنت أفعل مثلما تفعل تماما، وكنت أتظاهر أنني لا أعرف  أشياء أعرفها جيدا حتّى تعلمني. كانت تكلمني عن الوحدة، تعلمنّي كيف يعيش المرء وحيدا. وكنتُ صامتة تماما، وهي تتحدث طول الوقت. غرفتي في بداية الممر على اليمين وغرفتها في نهايته في الواجهة. في غرفتها نافذة تشبه المشربية، تتسلل عبرها أشعة شمس خفيفة أرقب بانبهار انعاكسها على وجهها وهي تخبرني شيئا جديدا. علمتني أشياء كثيرة وقالت لي معلومات كثيرة يبدو أنني كنت أحتاجها بشدّة في الحلم. وكان لها طريقة في تضييق عينيها ثم النظر في وجهي قبل أن تخبرني شيئا جديدا، تبهجني. تقول جملا متقطعة وهي تنظر بجانب وجهها. أنقذتني. كنت تائهة وهي قالت لي: تعالِ نتشارك في الشقة. وقالت لي كلاما مهمّا عن العمل والناس -خصوصا الرجال- والحياة لا أتذكر منّه الكثير الآن. ـ
ثم حدثت نقلة محورية لا أعرف كيف. صرنا نتشاجر كثيرا. ليس شجارا، جدالا. نختلف على التعريفات، نتحدث كثيرا، ولا نتفق على شيء. كنت أرد عليها بحدّة أحيانا، وهي تنفعل وتخبرني أنني جاهلة وغبية ولا أعرف شيئا فأخبرها أنّها كاذبة ومفتعلة ولا تفكّر جيدّا. ولكنها كلّها شجارات وديّة. لا نتصالح في نهايتها؛ لا داعي أصلا؛ لا يوجد أي زعل من أساسه. حتّى السباب كان تقريريا، كانت تخبرني أنني جاهلة وأنا أوافقها لا اعتراض، وأنا أخبرها أنّها كاذبة، وهي توافقني كذلك ولا اعتراض. في هذه المرحلة، كنت أدخن السيجارة بطريقتي، وأفتح علبة التونة بطريقتي وأتحرك كما يحلو لي. ـ
ثم ظهر القرار بأنني لابد أن أنتقل. كان اتفاقا مشتركا، نعلم أنني يجب أن أترك الشقة. ليست مشاجرة، ليس غضبا، قرار بسيط. وقفت على باب غرفتي وقلت لها سأنتقل لشقّة أخرى، وهي هزّت رأسها بطريقة مفهومة. ثم دخلتُ الغرفة. خرجتُ وقلت لها: ممكن نعيد من الأوّل؟ ابتسمت. كانت أوّل مرّة أراها تبتسم في الحلم. ولم تقل شيئا. وأنا لم أفهم في الحلم معنى الإبتسامة، هل تعني أنّها توافق أم لا توافق. وصحوتُ من النوم، وأنا لا أعلم حتّى ماذا كنتُ أقصدُ بالبداية من جديد.ـ

Friday, July 8, 2011

تساؤل

لا فرق بين النبوءة والذكرى
ما يحدث قد حدث أو سيحدث
الواقع حلم .. والحقيقة غائبة .. ـ
أين اليقين؟
في علاقات الحب العابرة .. في الزمن النسبيّ .. ـ
أم في حياة لا نملكها؟
كيف أثق في طعم قهوة يتحدد مزاجي اليوميّ بمقدار سكرّها؟
في موسيقى تأتيني سرّا وتموت في العلن؟
في أحرف أمزجها بأنفاسي ثم أحرقها؟
في إله خلقني ثم لم يسألني: هل أنت سعيد؟
أين اليقين في أن نصحو ولا نصحو
وننام؛ فنحلم
و لا يتغيّر شيء في النهاية؟
وكيف نصحو كل يوم ونحن نعلم أنّ
في يوم، سيأتي قريبا، لن نصحو؟
كيف يمكن لكل هذه الدوامات أن تبتلعني
من دون أن أسأل عن الذنب الذي ارتكبته؟
كيف أُحرَق ألف مرّة وأنا لا أملك الشرارة؟
نهاية الطريق تيهٌ
فلا فرق بين أن أصل أو أضلّ
بين أن أعلق في أزرار البيانو .. ـ
أو أنجز المقطوعة .. ـ
أنا للرحيل وللغياب
اخترتُ أم اختير لي .. ـ
ولا خيار سوى الطريق الذي لم أختره .. ـ
والذي لا يأبه كثيرا لأنفاسي المحترقة .. ـ
ولا لمزاجي المتقلب تبعا لسكر قهوتي .. ـ
ولا لنهايتي .. ـ
الطريق الذي سأسيره؛ سأسيره .. ـ
سنسيره  .. ـ
فقط، دعونا نقف قليلا على جانبه .. ـ
ونسأل أسئلة ليس من بينها: "هل أنت سعيد؟" .. ـ
وليكن هدفنا الوصول، بأكبر الخسائر الممكنة .. ـ
فالخسارة وحدها هي الاختيار. ـ

Wednesday, July 6, 2011

كلام سيكوباتي

بعد كل مرّة بنتقابل .. بعد كل مرّة بنتكلم في التليفون .. بعد كل مرّة ببعتلك فيها رسالة .. دايما بيجيلي خاطر انّي عايزة أعيد من الأول .. بيتهيألي انّي أقدر أعيد المكالمة أو المقابلة بطريقة أحسن ..  .. انّي ممكن أصيغ أفكاري بصورة أوضح .. انّي لو كنت بصيت في وشك وانت بتقولّي الجملة ديه، كنت هفهم أكتر .. انّي كان المفروض أسألك كنت تقصد ايه بظبط بالكلمة ديه .. أو انّي كان المفروض أقولك اللي كنت بفكّر فيه وما أخافشي .. في كل مرّة بيحصل فيها بينّا حاجة، بيبقى نفسي بعد ما تخلص أعيدها تاني، عشان أعيش اللحظة تاني .. عشان أصدق .. أو عشان أبطل أخاف .. ـ
لولا انّي بخاف أبان ساذجة، أو مبتذلة، أو مفتعلة .. كنت طلبت منّك انّك بعد ما تقفل معايا في التليفون، تبعتلي مسج تقولّي انّك اتبسطت في المكالمة .. وبعد ما نسيب بعض ونمشي، تتصل بيّا تقولي ان اليوم كان حلو .. كنت طلبت منّك ان بعد كل حاجة، تقولّي ما تخافيش .. ـ

أكد لي أن شيئا سيدوم بيننا .. فقدري أنني تأثرتُ بأشياء تجرعتها وحدي إلى حد المرض* .. ـ
--------

Friday, July 1, 2011

إن متُّ انتبهتُ

انتبهتُ إلى أنني لا أتحدث تقريبا. أقول كلمات قليلة جدّا وإن استطعتُ الإشارة عوضا عن فتح فمي سأفعل. منذ يوم الأربعاء لم أحرك لساني تقريبا غير مرّات محدودة. بعيدا عن الحوارات الافتراضية على الانترنت لأنها أشبه بالكتابة وليس بالكلام، لا أتكلم تقريبا. لا أعرف السبب بالضبط. لم أنتبه حتّى لهذا إلا عندما سألتني أمّي عمّا إذا كان هناك ما يضايقني. "داخلة ساكتة وخارجة ساكتة". فانتبهتُ أنني ساكتة فعلا.

لا أحب يوم الجمعة. أكرهه منذ الطفولة. يوم الجمعة يكون أبي في البيت، نكون كلنا في البيت، كل الناس في العمائر المجاورة يكونون في بيوتهم وهذا لا يعني إلا شيئا واحدا: الضجيج. أبي يشاهد شيئا ما مزعجا على التليفزيون، أخي الصغير يلعب لعبة ما مزعجة على الكمبيوتر، أمّي تصنع شيئا ما مزعجا بالخلاط أو بالغسالة العادية، وأختي تقرر أن تنظف الغرفة وهي تستمع لسورة الكهف عشان البركة. والجيران في نفس العمارة وفي العمائر المجاورة يفعلون نفس الأشياء. ولو أضفنا الباعة المتجولين، وخبطات بائع الأنابيب، والإصلاحات التي يقوم بها أحدهم في بيته -خبط وترزيع- فهذا لن يعني سوى الجحيم في أبهى صوره. استثنيتُ خطبة الجمعة المزعجة للغاية التي تأتي من ألف مئذنة في نفس الوقت، على اعتبار إنّها بتاخد وقتها وتسكت. لا أحب يوم الجمعة.

ليلة هذه الجمعة، شاهدتُ فيلما سخيفا، وقررت أن أنام قبل شروق الشمس، ونمتُ فعلا. كان عندي خطّة شريرة تتضمن استغلال يوم الأربعاء العظيم لإصلاح باقي الأيّام. أنام في مواعيد معقولة، بعد الفجر حتّى، وأستيقظ في مواعيد معقولة، مع الظهر مثلا. وأُجنّب نفسي، وأجنّب المدونة، وأجنّب قارئ المدونة، التدوينة الصباحية السخيفة. ولكن يبدو أنّه صار قدرا.

أيقظوني قبل صلاة الجمعة بأكثر من ساعتين وسألوني إن كنت سأفطر معهم، قلتُ نعم. وتجاهلتُ حقيقة أنني لم أنم جيدا، وأنني نمتُ نوما متقلبا. تجاهلتُ الكوابيس. وعندما أنهينا الإفطار، وقفتُ في غرفتي قليلا، أنظر للكمبيوتر، ولورق المادة القادمة، وللرواية التي أقرأها، ولم أعرف ما الذي يجب عليّ فعله. كنت تائهة، كأنني لم أستيقظ بعد، أو كأنني في غرفة لا تخصني. هيه عُدنا للإنفصال إذن. رفضتُ أن أعود لهذه الحالة، ولكنّ ظلّ القرار غائبا. حسمه صوت سورة الكهف القادم من قناة المجد في الصالة؛ سأنام. أدرتُ موسيقى تعتبرها أختي مزعجة، ونمتُ. نمتُ بعمق فعلا. صديقة قديمة لي قالت لي يوما ما بعيد أنني أهرب إلى النوم أحيانا. لا أعلم تحديدا. ولكنّي اليوم قارنتُ بين ضجيج الواقع وضجيج الحلم، وجدتُ أن أحلامي هادئة نوعا ما خلال النهار، والفترة التي نمتها من بعد الفطار حتّى وقت تناول الغداء كانت هادئة تماما. بناء على هذا أخذتُ أغبى قرار أخذته في حياتي، قررتُ أن أنام باقي اليوم. نمتُ، ولكن عادت إليّ الكوابيس المزعجة التي يختلط الواقع فيها بالحلم، وعاد إليّ الدوار. وصرتُ لا أريد أن أنام من صعوبة الحلم، وكلما نهضتُ، سقطتُ من الدوار.

في الحلم، كنتُ أعرف أنني يجب أن أنهض من النوم، ولكنّي لا أستطيع. وكنتُ خائفة جدّا أن يراني أحد نائمة، باب الغرفة يهتز كأنّه مصنوع من القماش، وهناك أضواء تتخلله وتنعكس على قطع الأثاث في الغرفة وتحولّها لشياطين. أضع رأسي بجانب الكمبيوتر، وصوت محركاته كان كنذير شؤم بالموت. أشعر بيديّ تتحرك وحدها، وأنا لا أريد أن أحركها. أنظر لها برعب، وهي تستمر في الحركة وترتعش فيرتعش جسدي كلّه. أسمع صوت أقدام في الممر، أحدهم يقترب من الغرفة. لا أريد أن يعرف أحد أنني نائمة، أقول لنفسي في الحلم: استيقظي .. استيقظي. ولا أستيقظ. فُتح الباب بغتة بقوّة وأُضيئت الغرفة. صرختُ في الحلم صرخة هائلة، واستيقظت وأنا لا أستطيع التنفس. كانت أمّي على الباب تسألني: انتِ تعبانة؟ كدتُ أشتمها، ثم أدرتُ وجهي نحو الحائط ولم أرد. سألتني أسئلة هلامية عن عمّي الذي اتصل بي، عن ملابس متسخة وأخرى نظيفة، وأنا لا أعرف كيف أجيبها. النور يُغشي عينيّ، وعقلي مضبب جدّا، ولا زلتُ في أحداث الحلم. ثم خرجت من الغرفة، فتنفستُ. بمجرّد أن أغلقت الباب، فتحته مرّة أخرى بعنف مماثل ثم فتحت نفس الموضوع القديم. قالت كلاما سخيفا نوعا ما، ضغطت عليّ بشدّة، حاصرتني، ولم تهدأ إلا عندما طلبت منها بحدة أن تتركني وشأني. انصرفت ولم تعد. نظرتُ في الساعة، كانت العاشرة مساء. حاولتُ أن أنهض، ففشلت من الدوار. استلقيت وأخذت أحاول التنفس بهدوء، وأقبض أصابع يديّ ثم أفردها، ثم أقبضها وأفردها. تحسستُ وجهي، وتحسستُ عينيّ، ثمة سخونة طفيفة. انتظرتُ حتّى هدأت تماما. وقمتُ ببطء شديد. جلست على السرير، وأدرتُ الموسيقى مرّة أخرى -كانوا قد أغلقوها لأنها مزعجة- وحاولتُ أن أبكي، فلم أستطع. ظللت جالسة على السرير حوالي ساعتين، لا أفكر في شيء. ثم قمتُ لأبدأ يومي بعد منتصف الليل.