Sunday, July 31, 2011

سجائر

في فيلم I am legend يفنى البشر بوباء كانوا يظنون أنّه سينجيهم. يبقى عدد قليل، بعضهم معافى وهم الأقل، والباقي تحولّوا لوحوش لا تحتمل الضوء. لنفكر في الوحوش التي تعيش في الظلام. نتخيّل شخصا أو وحشا لبث في الظلام طوال حياته، النور هو عدوّه الأشرس. يقضي حياته في الظلام ولا يحتك بالضوء إلا نادرا. كيف سيصنّف الضوء؟ الضوء له ليس كيانا طيبّا على الإطلاق.

أعتقد أنني أمتلك بعض مهارات الخفاش. أتحرك في الظلام بمهارة، لا أخافه. عندما ينقطع التيّار أستطيع أن أجد طريقي دون أن أُسقط شيئا. لا تؤذيني العتمة بقدر ما يفعل النور. نور الغرفة مطفأ ما لم تكن هناك حاجة ملحة للقراءة. يشتكي من يستخدم جهاز الكمبيوتر الخاص بي من أنني أستخدم إعدادات إضاءة منخفضة. النور يؤذيني فعلا. أكره الشمس، ولو كان الأمر بيدي لألغيت النهار من كل مواعيدي ولفعلت كل شيء في الليل. لا أستطيع التركيز ولا المذاكرة ولا القراءة طالما الشمس فوق رأسي. أقدر مجهوداتها في تدفئة الأرض والنباتات والصحة والـ .....الخ، لكنّي لا أحتملها.

ماذا يحدث لخفافيش الظلام أمثالي، أو للوحوش إذا غشى عيونها النور فجأة؟ وحوش الفيلم كانت تجري مختبئة مرّة أخرى في داخل الظلام. أنا أغمض عينيّ بشدّة، حتّى ينتهي السبب الذي أضيء النور لأجله، ثم أفتحهما في الظلام مرّة أخرى.
والفقرتان الأخيرتان تحملان المعنيين الحقيقي والمجازيّ.

هناك فكرة كليشيهية يرددها الحالمون بغد أفضل ومستقبل مشرق والذين يأملون في حياة طويلة وسعيدة -شوف الإفترا بتاع البني آدمين- ويؤمنون أن "كلّه خير". يقولون دوما أن : السقوط، أو الإنحدار علامة للصعود من جديد. وأن لكل جواد كبوة. وأن الحب الحب الشوق الشوق. أن كل هذه الكآبة ستجعلني أقوى. أحترم تماما كونهم يتألمون لي، كونهم يأملون في غد أفضل فعلا، أنهم ليسوا أشرارا. ولكن عند أي محاولة لاقناعي بهذه الأفكار لا يكون على لساني وقتها سوى كلمة بذيئة شهيرة من ثلاثة أحرف.

زميلاتي في الكليّة لم يكففن عن دعوتي للذهاب لصلاة الظهر معهم، إلى أن أخبرتهم بحدّة في إحدى المرّات أن يدعنني وشأني وأنني لا أصلي. في ساعة صفاء مع إحداهن بعدها، سألتني بود عن السبب. كان الحوار لطيفا، وكانت البنت متفهمة إلى حد كبير قبلها. عندما سألتني هذا السؤال، ترددت قليلا ثم قلت لها بلطف أنني لديّ بعض المشاكل مع الأديان ومع الله. هزّت رأسها في تفهم وقالت:" الشك مرحلة مهمّة من مراحل الإيمان". شتمتها في سرّي، ولم أكلمها من بعدها.

لماذا يفترضون دائما أنني سأعود لطريقهم؟
يقولون أن الحياة تمُر. يقولون أن الشخص الحزين لا يمكنه أن يرى ما بعد حزنه. وأن من داخل الإكتئاب تأتي الفرحة. وأنا أقول: اذهبوا جميعا للجحيم. 

تحكي كارن أرمسترونج في كتابها :"الله لماذا" أن بعض القبائل البدائية في عصور قبل التاريخ اعتبرت الصيد طقسا مقدسّا. على الفتى الذي يعبر من طور المراهقة إلى طور البلوغ حتّى يصبح رجلا قادرا على ممارسة شعائر الصيد أن يمر بعدد من الطقوس. "عليه التخلّي عن تبعية الطفولة وتحمل أعباء النضوج بين عشيّة وضحاها. ومن أجل بلوغ هذا الهدف، يُحتجز هؤلاء الصبية في مقابر، يدفنون في الأرض، يقال لهم إن الوحوش على وشك أن تلتهمهم، يجلدون، يختّنون، يوشمون. وإذا سارت طقوس التكريس على النحو الصحيح، سيُجبَر المراهق على التعرف على إمكانيات باطنية لم يكن يعرف أنه يمتلكها. يخبرنا علماء النفس أن هول تلك التجربة تتسبب في اختلال نكوصي للشخصية، الذي، وإذا تم التعاطي معه بمهارة، سيؤدي إلى إعادة تنظيم بنّاء لقوى الشباب".

كتبت في هامش الكتاب بجانب هذه الفقرة:"وإذا لم؟"سيظل الشاب في هذا الإختلال النكوصي إذن. وإذا أحب العيش في الأنفاق؟ إذا لم تعجبه قدسية الصيد؟ إذا استعذب البقاء في هذه المرحلة الإنتقالية، أو صار لا يريد أن ينتقل لما بعدها؟ ويل سميث في الفيلم كان يريد مساعدة هذه الكائنات. يجري تجارب ليعيدها لطبيعتها. ليعيدها للنور. لكنّ هذه الوحوش، Dark seekers لا تريد. تهاجمه دائما وتريد أن تقتله لتشرب دمّه.

أولى خطوات التفكير العلمي الشهيرة هي "تحديد المشكلة". أن نعرف أن هناك مشكلة؛ نصف الحل. أظن النصف الثاني هو: الرغبة في حل المشكلة. لا تذكر خطوات التفكير العلمي الرغبة في الحل كإحدى الخطوات، يفترضون أنّ إدراك المرء لوجود مشكلة سيدفعه لحلّها. وهو ما أثبتت تجربتي العمليّة خطأه للأسف. أنا أدرك أن هناك مشكلة، أعرف أبعادها جيدّا، ولكنّي كلما فكرت في الإنتقال للخطوة التالية أجدني لا أريد فعلا. ليست حالة من حالات السعادة بكوني ضحيّة. أنا لستُ ضحيّة. ليست حاجة إلى لفت الإنتباه، أنا على العكس أريد ألا يلتفت إليّ أحد.

أنا لا أريد. هذه هي المشكلة بمنتهى الإيجاز. لا أريد. فقدتُ اهتمامي بالعالم تماما. فقدت اهتمامي بذاتي أصلا. لا شيء يصنع لي فرقا. هدفي من الحياة ألا أنتحر. ولكنّ ذهني صار خاليا تماما. لا ردّ عندي على أي شيء. كغريب ألبير كامو. لا شيء يهم. سألتني بنت عمّي "يعني انتِ لو متِ دلوقتي عادي؟" كانت تسأل السؤال من منظور ديني، أنا لم أرد صدمها في مفاهيمي الدينية فصمتُّ. ولكنّي فكرتُ في السؤال بشكل عام. وجدت أنني لو متّ الآن سيكون "عادي" فعلا. لم أحزن للفكرة، ولم أفرح بها. لا يهم.

هناك أشياء طيبة في الحياة. لكنّي لا أهتم لهذه الدرجة. لا أبالي. وعندما أموت لن أشتاق لشيء. نتحدث عن حبنا للحياة من داخل قوقعة الحياة، نحن نحبّها ونحن داخلها. إذا خرجنا لن يُصبح لها معنى. وأنا لا أريد أن أموت، ولا أريد أن أعيش. عادي، الأمر لا يصنع فرقا على الإطلاق. ليس لديَّ ما يجعلني ممتناً لك أو لغيرك. كل طموحي أن أبقى وحدي سليماً وأن يذهب العالم كباكيدج إلى الجحيم"*. ولكنّي حتّى لا يعنيني أن أظلّ سليما معافى.

في إحدى مرّات بحثي عن سبب للعيش من أجله، كنت هادئة ومنبسطة نوعا ما. قلتُ ليكن الهدف أن أعرف الحقيقة. وجدتها جملة كليشيهيّة ولا أصدقها. قلت لتكن أن أعرف بغض النظر عن الوصول. لم أتحمّس. ثم انتهيتُ لأن يكون الهدف هو أن أستمتع. "المتعة". وفرحتُ قليلا وقتها. وجدته هدفا لطيفا لا يكلّف الكثير من العناء ويضع قاعدة عريضة يمكن قياس كل شيء عليها ببساطة. هل هذا سيمتعني؟ نعم؟ عظيم، إذن لنفعله. لا؟ إذن فاكس. بدت مسكنا مزمنا لطيفا يمكن التعايش معه. الكارثة المخزية والمهينة هي أنني اكتشفت عدم وجود أشياء تمتعني أصلا.

لهذا السبب تحديدا، قضيتُ أياما طويلة في السرير نائمة. أو أتناوم. أستيقظ صباحا، أفكّر كثيرا جدّا فيما أفعله. أبحث كل الأشياء التي سأفعلها عندما أنهض، أدرس كل الإحتمالات جيدّا؛ كلّها مملة للغاية. أحتاج سببا قويّا يقنعني بالخروج من باب الشقّة للعالم القذر بالخارج، للخروج من باب الغرفة للشقّة المليئة بالتفاصيل المملة، خارج السرير للغرفة المليئة بكآباتي. ودائما لا أجد هذا السبب فلا أنهض. أدخن حياتي كسيجارة لا تنتهي ولا تهمني. أحرقها بنفس الكيفية ولا أحزن عندما تحترق. أدخنها بلا إهتمام. كلما حاولت قراءة كتاب جديد وجدت الأمر يحتاج مجهودا أكبر من قدرتي، فأتركه. أقرأ نفس الكتب التي قرأتها من قبل. أو للدقّة العلميّة، لا أقرأ سوى كتابا واحدا: رسائل مصطفى ذكري. ولدقّة أكبر أقرأ منه فقرتين فقط. عندما أستيقظ من النوبة، أكتشف أنني قضيتُ حوالي نصف ساعة أقرأ نفس الفقرتين. حفظتهم بعلامات الترقيم وبالتشكيل. فصرت عندما لا أكون أقرأهم بالفعل، أرددهم في ذهني. أسبحهم.

لو تُركت لنفسي ولحالي سأفعل شيئين لا ثالث لهم. قهوة وسجائر. حتّى البكاء صرت لا أستطيعه. يضيق العالم، ويجلس على صدري ولا تنزل دمعة واحدة. تركني أهلي في يوم وخرجوا جميعا وباتوا عند خالتي. ماذا فعلت طوال اليوم؟ فتحت الثلاجة أكثر من مرّة لأقنع نفسي أنني يجب أن آكل ثم أغلقها وأشعل سيجارة وأصنع فنجان قهوة. في الثانية ليلا، كنت انتهيت. أدركت أنني إن لم آكل شيئا ربما أنهار فعلا. أحسستُ بالعجز وبالإهانة. كنتُ وحدي تماما. اكتشفتُ أنني أشغل نفسي طوال الوقت برغبتي في أن أكون وحدي، وعندما صرتُ وحدي صدمتني وحدتي. ليس لأي سبب اجتماعي. لم أكتشف حاجتي المفاجئة للبشر مثلا، اكتشفت فقط أنهم يشغلوني. في وقت مثل هذا أكون منشغلة بانزعاجي منهم، أما وقد صرتُ وحدي فلا شيء يشغلني. قرأتُ وكتبت ونمت وفعلت كل شيء وبقِي العالم ثقيلا. العالم الفارغ من حولي يحيلني لفراغي الداخلي. يحيلني لعدم رغبتي فيه.

مصطفى ذكري يلخّص كل مآسي حياتي في فقرتين، أنا تافهة ووضيعة لدرجة أن تتلخص حياتي في فقرتين:

"لم أكن أتخيل وأنا صغير أنني سأقع في كل كليشيهيات الكاتب التي قرأتُ عنها بشغفٍ وتمنيتها بسذاجة وكأنها كانت تمثل لي تذكرة دخول وجرن معمودية الأدب. الوحدة، الخوف، السوداوية، النفور الشديد من المسؤولية، المرض، التفكير في الموت، الإخفاق في الحياة، الولع بالحب والفشل، قائمة طويلة تعود دائما بتوزيع مختلف، نوتة واحدة، وسولوهات عديدة. والسؤال المعذِب والمدوِّخ للروح. هل كان هذا الوقوع حتميا ولا مفر منه؟ وإذا كان، هل هذه ضمانة يمكن الوثوق بها للوصول إلى فنيّة التعبير؟وهل تلك الفنيّة مرتبطة بصدق الكليشيهات نفسها ومدى الانغماس فيها؟ وهل هذا الانغماس حُجة على فنيّة التعبير؟ أليس هناك كثيرون مروا بمرض نيتشه لكنهم لم يعبروا مثله؟ ألا يصح كما يقول نيتشه بأنه من داخل المرض يأتي التعبير عن عنفوان الصحة البدنية والعقلية؟ ولكن ألا يهدم كتاب نيتشه "هذا هو الإنسان" مقولته عن الصحة التي تشدق بها؟ وأين نضع البارانويا المخيفة في هذا الكتاب موضع الصحة؟ السؤال لا ينتهي والجواب محال."

"قدري أنني تأثرتُ بأشياء تجرعتها وحدي إلى حد المرض. أكدي لي أن شيئا سيدوم بيننا. هذا العالم لا يعنيني. فقط شئ ثابت، شئ واحد أحيا من أجله، لا أريد الكثير، بل أقل القليل. لا أرتاح كثيرا لصيغة النجاح، الناجح شخص انتهازيّ، والفشل لطمة وجودية كريمة على وجه لن نعرفه أبدا. دعيه يسقط في سلام. ما زال الخروج من البيت عصيا عليّ، لكنني أحتمل البقاء ببعض الأفكار."

السؤال لا ينتهي والجواب محال. قدري أنني تأثرتُ بأشياء تجرعتها وحدي إلى حد المرض. فقط شيء ثابت، شيء واحد أحيا من أجله. هل كان الوقوع حتميا ولا مفر منه؟ ما زال الخروج من البيت عصيا عليّ.هل تلك الفنيّة مرتبطة بصدق الكليشيهيات نفسها والانغماس فيها؟دعيه يسقط في سلام.

أريد قهوة وسجائر ومكانا خاليا من البشر. ولا أريد كتبا؛ حفظت الفقرتين عن ظهر قلب.

------
* من: أن تكون عباس العبد - أحمد العايدي

10 comments:

  1. ملكة وشادي منورّين والنعمة :)

    ReplyDelete
  2. أحمد جمعة وأحمد الحضري
    مشكرّين .. المدونة منورة :)

    ReplyDelete
  3. I feel these stuff


    ------
    * من: أن تكون عباس العبد - أحمد العايدي

    ya3ny men ely katebha

    ReplyDelete
  4. إيهاب:
    الرواية اسمها: أن تكون عباس العبد .. الكاتب هو أحمد العايدي

    http://www.4shared.com/document/Sh59cv-p/_____.html

    just a guy
    شكرا

    ReplyDelete
  5. رائعة لابعد الحدود

    ReplyDelete