Friday, September 2, 2011

"هل يقسو القلب مع طول السفر؟"

لم أستقر في بيت واحد طويلا. ولدت في المدينة المنورة وأقمت هناك حتّى السنة الأولى الإبتدائية، ثم عدنا للقاهرة. شقتنا كانت في "أرض اللواء"، وأقمنا مع جدّي في "باب الخلق". فترة الدراسة نقضيها في بيت جدّي حيث مدارسنا، في الإجازات، نقيم في شقتنا. سقطت عمارة أرض اللواء، لأن شخصا امتلك أرضا مجاورة للبيت أراد بناء برج، فأصاب أعمدة البيت في مقتل، وتداعى البيت كتلة واحدة. كنا وقتها في بيت جدّي. أعطتنا الحكومة شقّة بديلة في "إمبابة"، فكررنا لعبة الدراسة والإجازة. ولكننا لم نحب جيراننا سكان الإيواء، ولم نستطع التكيف مع رائحة المجاري المنبعثة على الدوام، فتركنا الشقة، ثم اشترينا شقة جديدة في الهرم منذ بضعة أعوام وانتقلنا إليها تماما، ولم نغيّرها إلى الآن. أين ذكرياتي إذن؟ لا أحن إلى موضعٍ ما. أتذكر أياما من السعودية، وأياما في أرض اللواء المنهارة، وأخرى في امبابة. معظم ذكرياتي في شقة جدي في باب الخلق، ولكن هذا ليس مرادفا للحنين. تعودت ترك كل شيء ورائي بصورة ملفتة للنظر. لم أتعود أن تدوم علاقتي بشيء طويلا. بدلّت أصدقائي، أماكن إقامتي، اهتماماتي، وحتّى أفكاري في وقت أقل من أن أرتبط بها. تعودّت الفراق. أنا في رحيل دائم نحو ما لا أدركه.
سقوط البيت علمني شيئا: البيت ليس الأمان والاستقرار.ما زال الذعر الذي رأيته على وجه أمي عند عودتها من موقع المنزل المنهار. أذكر كلماتها جيدّا، رغم أن هذا ماض بعيد على ذاكرتي الضعيفة: "تراب .. كل حاجة راحت". لن أعرض نفسي لشيء مماثل. أفكر كثيرا في السؤال الذي يسألونه من باب اللعب :"لو كان البيت سيقع، وسأختار أشياء محدودة، ماذا سأنقذ؟" عندي بهذا قائمة واضحة جدّا أجددها من حين لآخر. ودربت نفسي: لا يفيد التعلق بشيء، قد ينهار في أي لحظة. البيت: أربعة حوائط لاستقرار عابر، أقرب لنُزُل. ملابسي، كتبي، سريري، أدواتي الشخصية: كلّها أشياء يمكن الاستغناء عنها. الشيء الوحيد الذي سأندم على فقدانه هو كتاباتي؛ وبالتالي: صرت لا أكتب في ورق. وتلف الـ" هارد ديسك" مرّة وضياع ما عليه علمني شيئا آخر: ألا أكتب إلا في المدونة؛ الانترنت الذي يمكن استخدامه من أي مكان. على سفر دائم، رغم أني لا أسافر. وكل مقيم سيغادرني أو سأغادره. أتأمل حنين أمي للبيت الذي نشأت فيه، وأبحث عن حنين مماثل لأي مكان ولا أجده. أرى أشواق أصدقاء قدامى حين يلتقون وأبحث عن شخص أشتاق له شوقا مماثلا فلا أجد كذلك. أتذكر أشخاصا، أتذكر لحظات سعيدة، ولكنّ التذكر غير الحنين. لا أريد لشيء أن يعود. في سفر دائم إلى الأمام، ولا أملك ترف الرغبة في العودة. "ما طمح إلى رؤيته شاهده، لكنه لم يدركه". أنا في تخلّي دائم عن كل ما يمكنني التخلّي عنه. ليس زهدا؛ انعدام قيمة. الأشياء لا قيمة لها. كل ما أمتلكه هو للاستخدام، ليس للتملّك. المسافر لا يبني بيتا في مدينة سيغادرها ولن يعود إليها. قطع ملابسه محدودة، وشنطة سفره بها القليل من المتاع، القليل من الزاد، القليل من الونس.
ذكرتني رواية (هاتف المغيب) بحالتي. الفتى ذو الهاتف الذي يدعوه دوما للسفر نحو مغيب الشمس. "قال إنه لم تدم علاقته بموضع، وعندما يخيل إليه أنه بدأ يعتاد مكانا يبزغ الهاتف، هكذا يفارق ما اعتاد أو ما أوشك الاعتياد عليه .. لا يمكنه الحكم على صلة بمنزل أو دار أو وطن!" هكذا أنا، لم أتعلق بموضع أو بفكرة أو بحالة أو بشخص؛ سأفارق. تساءلتُ : هل لدي هاتف يدفعني لشيء لا أعلمه؟ إذ تبدو لي أحيانا الحوادث والانتقالات المتكررة مفقودة من سياقها. أفتقد السياق الأكبر الذي سيؤدي إليه كل ما يلم بي. ليس ما أريده هدف أكبر، أو غاية نهائية؛ إنما جلّ ما أتمناه سياق واضح. أمّا الرحيل الدائم لنداء هاتف لا أعيه فمربك وينزعني من كل إطاراتي. أحيانا أنظر للأشياء التي أمتلكها بالفعل وأفكر: هل هو نوع من الظلم أن أتخلى عن كل هذه الأشياء؟ أقول عن شيء ما :هيوحشني، ولكنّي أعود فأتذكر كل ما تركته، فأعرف أن الألم وان زاد فهو إلى زوال. وأن غربة البدايات القاسية فارقتني، غربة الآن مُدرَكة معتاد عليها. "وهنت غربته مع اشتدادها". الكل راحل وإن طال بقاؤه. حتّى ما أقوله عن نفسي –هنا أو في لقاءات الأصدقاء- لا أخشاه، في الشهر القادم لن أصبح نفس الشخص الذي قال هذا الكلام؛ لن يكون له قيمة بعد فترة قصيرة وإن طالت.
في أحد أحلامي المشوشّة: أرى جمعا كبيرا من البشر، رحيل يشبه رحيل أهل النوبة عند بناء السد، حولي كل البشر الذي عرفتهم في حياتي، هناك حالة من البريّة والفطرية مسيطرة على المشهد، كأن الجمع عرايا ولكنهم ليسوا عرايا، يمسك كلٌ في يده بإطار للوحة أجهل ما فيها. لا أتذكر إمساكي بواحدة، ولكنّي أدرك في الحلم أن عليّ معرفة محتوى اللوحات، ولا أنجح في هذا. ينبعث صوت من كل الاتجاهات: مميّز، واضح، جليّ، صوت لا ينتمي لشخص ولا لآلة، كأنه "الصوت" في ذاته، يقول جملة واحدة : ".... يا سميّة". يرجني سماع اسمي، ولكن يفلت مني نصف الجملة الأول. قال كلمة واحدة، كلمة جامعة، الكلمة التي تحوي سر حياتي كلّه، كان كأنه يجيب عن كل تساؤلاتي، ولكنّي لم أسمعها. أجري في الحلم، أحاول اقتحام صفوف البشر، أصرخ وأنا أبحث عن مصدر الصوت، يخيّم صمت تام، لا صوت إلا للأقدام الزاحفة لكل البشر الذين عرفتهم، ينظرون لي بلوم، ولا يفهمون شيئا. عندما استيقظت من النوم، كان هناك خواء رهيب يملؤني. كنتُ أدرك بشكل ما أن هذا الحلم لن يتكرر، وأنني كنت أحتاج لمعرفة ما تحتويه اللوحات، وأن الكلمة التي لم أسمعها هي الحل لكل شيء. وأوقن أن لا بديل الآن سوى الركض، سوى مواصلة الرحيل ولكن بخطوات أسرع من خطوات البشر الذين أعرفهم، بحثا عن الصوت الذي فقدته.
يقولون أن على المسافر في الصحراء ألا يخلو لنفسه كثيرا. كثرة الاستغراق داخل الذات قد تضيعها. "الأهم أن يصغي كل إنسان إلى أصوات الآخرين، الامتداد اللا نهائي والصمت الكوني وغموض النجوم في الليل، والاحتمالات الخبيئة المفاجئة، جميع هذه العوامل جالبة للذهول، عندئذ ربما يضل الإنسان، يتوه عن نفسه، وهذا من عوارض السفر الطويل". و"ما كان راسخا يتشظى". مع طول السفر، والصمت الطويل، يلهو المرء عن الآخرين ويغوص داخل نفسه و"إذا جنح إلى انفراد، وأمعن الفكر فيما يستعصي عليه بلوغه، أو تستحيل رؤيته، أو اللقاء به، المفاجآت بلا حصر، المعلوم منها قليل، والمتوقع كثير، وما خفي علمه عند الله!" أنا لم أصل لهذه المرحلة من الصمت، ولكنني على طريق السفر؛ وكل ما أفعله خارج ذاتي هو لإلهائي عن الغوص داخلي. أخشى الضياع فعلا في دوامات الأسئلة التي لا إجابة لها. أخشى في غمرة رحيلي أن أكفّ عن الجميع إلاي، أن أصمت وأغوص في ذاتي فتضيع منّي وأتوه عن نفسي.
ما قاله لي صديق يوما عن أن العمل هو الخيار الوحيد يتطابق داخلي مع المسافر الدائم نحو جهة لا يعلمها. لا خيار سوى تلبية الهاتف الذي لم أسمع ما يخبرني به جيدا. "العمل" بالمفهوم الواسع؛ الحياة. أن أحيا. لستُ أقصد اغتنام اللذات أو الاكتفاء باللحظة؛ ما أقصده هو أن أمارس "وجودي" حتّى ولو لم أكن قد اخترتُه. أن أقيم في المدينة بقدر ما تتاح لي الإقامة. أدركُ رحيلي عن الأشياء قريبا، كل ما أتمناه، أن أدرك إلى أين سيأخذني الرحيل. كل ما أتركه خلفي، كل الأفكار التي ارتديتها وخلعتها، المعتقدات التي تركتها ورائي، الأشخاص والأماكن والاهتمامات – هل سيؤدي بي كل هذا إلى مفهوم أعمق؟ هل هناك سياق فعلا أفتقده؟ أتمنى فقط أن أستطيع رؤية البازل الذي أضع قطعه بطريقة عشوائية لم يتضح لي من خلالها أي ملامح أوليّة للصورة التّي أُكونُها. إذ يخيّل لي أحيانا أن هذه القطع المنفصلة لن تتصل أبدا، وأخشى ما أخشاه أن أصدّق هذا.
"لكم يبدو الفراق القسري وعرا، صعبا، بل إنه سعى وعنده إدراك بظلم خفي حاق به"

الاقتباسات كلّها من : هاتف المغيب – جمال الغيطاني

1 comment:

  1. قوية جدا و رائعة .. سلمت يداكِ .. و في الواقع لا مجال للنقاش لأن من الواضح أنك مدركة لجميع خيوط اللعبة ..

    فقط اعملي بالنصيحة .. لا تغوصي أكثر من اللازم

    Too much good stuff is a bad stuff

    ReplyDelete