Monday, June 27, 2011

طاقة زائدة

في شقتنا القديمة، كان التليفون يوضع على حامل خشبي صغير في الصالة. وإذا أراد أحد أن يستخدمه، يأخذه ويجلس على كرسي في أحد الأركان. كنتُ أفضل الوقوف و "الفرك" على حد تعبير جدّي الله يرحمه. وكانت أيّام ثانوي هي أيّام الرغي في التليفونات، فكان الوقوف يمتد طويلا. أقف وأروح وآجي و"أفرك" ولا أثبت في مكان. عندما انتقلنا للشقّة الجديدة، سلك التليفون صار قصيرا، ووُضع التليفون على منضدة بجانب كراسي الأنتريه. ولم يعد هُناك مساحة كافية للحركة بالتليفون على الرغم من اتساع الشقة نفسها. أصبحت مكالمات التليفون ثقيلة عليّ للغاية، وأبدّل مكاني من وقت لآخر، ولو المكالمة سخيفة أصلا ومملة، لا أطيق وأضطر للإعتذار من محدثي دقائق آخذ فيها جولة في الصالة، أشرب، أغسل وجهي، أي حركة، ثم أعود. في المحاضرات في الكليّة القديمة، ملل السنين، كان الجالس جانبي يشتكي من كثرة الحركة، أهز قدميّ، أتكتك بالقلم، أضع قدما على قدم، ثم أبدل وضع القدمين، ثم أرفع قدمي الإثنتين فوق المدرّج، ثم أعود فأتكتك بالقلم، لا أهدأ حتّى تنتهي المحاضرة فأقفز لأغسل وجهي. أكتب بسرعة، لا تفوتني كلمة، وأتحرك بسرعة لو كنت أرتدي ما يسمح، وفي أيّام ثانوي كنت أفتعل شجارا مع البنات حتّى أسبقهم فلا يسيروا معي، لأن حركتهم مملة وبطيئة. ومنذ دخلت الجامعة، تنقلت بين عدد كبير من مجموعات الأصدقاء والأنشطة والإهتمامات. وغيرت الكليّة كلها بعد سنوات من الدراسة عندما نفدت قدرتي على الاحتمال. ودوما كان انتقالي بين الأشياء سريعا. أحيانا، كنت أتخيّل نفسي مثل الوحش في فيلم الكارتون Nine .. أعيش على الطاقة التّي أمتصها من الأشياء حولي. وإن كان لفظ الإمتصاص ليس مناسبا، وأنا أصلا مش وَحْش يعني .. ما بموّتش :)
المشكلة أنني أقع دائما في فخ الندم ولوم الذات. وأخبر نفسي أشياء لطيفة للغاية عن "قلة أصلي" وعن "عدم الإخلاص" وعن "عدم الصدق" .. جحيم كامل التكوين. ولا أجد حلا في المنتصف، اللعنة على الحلول الوسطية أصلا.

تقول لي أمّي:"سميّة، الناس ما بتجريش يا حبيبتي في الشقة .. بيمشوا". انتبهت أنني لا أمشي فعلا، أجري. في الشارع لاحظت أنني أقفز، أقفز فوق الرصيف، أقفز الأربعة سلالم الأخيرة في نزولي، وأصعد سلمتين معا في صعودي. أخرج الكارنيه من المحفظة وأنا أعبر الطريق، حتّى لا أقف لحظة عند البوابة. أقدّر أسرع طريق للمدرج، والأسرع أي الذي لا يمر بتجمعات كثيرة للطلاب. أتشاجر مع طالبة أمامي على السلّم لأنّها تتحرك ببطء. لا أنتظر المصعد في النزول لأنني أتوتر في اللحظات التي نقف فيها، وأصل قبلهم إلى الأرضي. أقرأ الرواية في ساعة واحدة برغم أن المتوسط العام لقرائتها ساعتين.أنهي امتحان الساعتين في ساعة إلا ربع. أعبر الطريق جريّا، وأحرص عند وصولنا محطّة النزول أن أكون أول واحدة على الباب حتّى لا أحتك ببطء من أمامي.

لا أظنني شخصية سريعة. أمّي تقول عنّي "قلابة وبهوجة ومالكيش أمان". أعتنق فكرة ما، ثم ألقيها عندما أستنزفها وأمسك غيرها. أتطوّر دائما. أصاحب فلانا، ثم يخنُقني، فأرحل. لا أعرف العيش وسط قواعد وروتينيات. أفضل التنطيط. بالي طويل بالمناسبة، شريطة أن نبتعد عن القيود. فعل التنفس بالنسبة لي أهم من فعل الحب. البراح. لديّ طاقة زائدة، لابد أن أخرجها طول الوقت. لو لم أفعل، تخنقني هذه الطاقة، تدمرني ذاتيا، وتخرج في صورة عنيفة. نفاد صبري مرهون دائما بتقييد الطاقة.
لا أعتقد أن هناك أشياء كثيرة في الحياة تناسب جموحي. الاجتماعيات جحيم. الدراسة الروتينية مأساة. الارتباط التقليدي قاتل. الاشياء التي لا تتطور بتطوري، ولا تتغيّر معي تُميتني. إن لم أجد جديدا أقوله مع فلان، ستصبح علاقتي بفلان مستحيلة. لن أستطيع أبدا أن أكرر. أعطني شيئا جديدا يدفعنا للاستمرار.

هذه الفترة، تملؤني طاقة غضب. غضب عنيف ولا أجد له مخرجا. أحاول دائما كتم انفعالاتي. أسكت كثيرا وعندي ما أقوله. أضحك بصوت عالي، وأنا لا أريد أن أضحك أصلا. وليس من متنفس للمشي بسبب الامتحانات، والحر طبعا، فأظل أتحرك في الشقة طوال اليوم. أجلس لأذاكر ربع ساعة، وأقوم لأغيّر الموسيقى التي أسمعها.حتّى نشاط التدوين الزائد ليس إلا محاولة لتفريغ الطاقة. لو حبست كل هذه الأشياء في رأسي، ستنفجر. لو كتمت كل انفعالاتي بداخلي، سأموت. الورقة تمزقت اليوم وأنا أكتب فوقها. كنت أحكي لنفسي شيئا ضايقني، تمزقت الورقة من ضغطي بالقلم. أكلّم نفسي كثيرا، وأحلم أحلاما عنيفة، فيها قتل وموت. أنا لست بهذا العنف، قلبي أضعف من احتمال كل هذا. فأبكي. أضغط على نفسي وأقول: انتِ هتبقى كويسة. أقول لي أشياء جيدة عنّي. المشكلة أنني فعلا، أقسم، لا أصدق حرفا.

أفكر أنني يجب أن أعيش الشيء لآخره. بما إنّي شخصية "هوجة" يجب أن أصل لقاع النهر. التوسط يُصيبني بالجنون. ربما يجب عليّ أن أنفذ قرارا بالانسحاب، بالرحيل. أن أدع لنفسي مساحة لتفريغ الغضب في التفكير المرتب. أن أعيش الإكتئاب لآخره. لن أصل بطريقتي الحالية لشيء. أعرفني عندما أنفصل عمّا حولي. لن أصل لشيء. كل هذا الصراخ لن يؤدي إلا لمزيد من الاغتراب والانفصال. أحتاج أن ألقي بكل شيء جانبا، وأبتعد. كل هذا الصراخ لابد أن يهدأ. ولا بد من متنفس هادئ للطاقة، بعيدا عن كل هذا الإزعاج. أن أحاور أشباحي حوارا بناء، علنّا نتصالح ونتفق.

أنا لستُ منّي إن أتيتُ ولم أصل.

5 comments:

  1. سمية
    هو انا بس اللى كدة ولا كل الناس بيقولولك كدة
    انتى كل يوم بتكتبى احسن من اللى قبله بكتييييير
    هو انا مش خبيرة بس طريقتك فى الكتابة بقت رهيبة
    المشكلة انك مش بتكتبى حلو كدة الا لما تكونى فى الم

    ReplyDelete
  2. ياما الغُلب بيعمل في البني آدمين :D

    دايما رافعة من روحي المعنوية يا إي :)

    تسلميلي

    ReplyDelete
  3. أنا لستُ منّي إن أتيتُ ولم أصل.

    صح :)

    ReplyDelete
  4. ملكة
    أقل حاجة عندي بالمناسبة (H)

    رنا
    درويش قال كل حاجة .. الجملة بتلخص التدوينة كلها من الآخر .. بحس انّي حيوان سلابندر والله

    ReplyDelete