Sunday, June 24, 2012

إدراكات ما قبل الامتحان بساعة واحدة

اليوم صباحا، كنت في طريقي للجامعة، أستمع لأغنية لطيفة، أقنع نفسي أنني بخير، وأن مشكلاتي مع الوجود مشكلات عبثية ستزول بمجرد النزول ومقابلة الأصدقاء والثرثرة عن الأشياء ليست ذات الأهمية. أنني شخص يمتلك كل مقومات الحياة السعيدة، فلا داعي للـ "أفورة".
ركب معي الميكروباص شيخ كبير في السن، كبير السن لدرجة مؤسية. رأى الأوتوبيس الذي يريد استقلاله قادما من ورائه، فطلب من السائق أن يشير له، وأن ينزل ليركبه. تعاطف معه سائق الميكروباص، وسائق الأوتوبيس، وتوقفت الحياة قليلا، وتوقف كل شيء يدور في رؤوس الحاضرين للموقف. صار لنا هدف واحد: أن ينزل الرجل، أن يركب الأوتوبيس، وبأقل خسائر ممكنة له. "على مهلك ياحاج" "براحتك". شخص مد له يدًا لينزل، وآخر يمد يده ليصعد. نجحت المهمة، واستراح الجميع. وأنا تمتمتُ في سرّي "كويّس". ثم فكرّت أنني لا أتعاطف مع الأطفال إطلاقا، ولكنّي أتعاطف مع كبار السن لدرجة ملحوظة. ولاحظتُ أن اهتمامي به كان غير عادي. كنت أراقبه منذ ركبتُ، ارتعاشة يده، ذهنه البطيء، الخوف في عينيه، الألم الذي لا يزول من وجهه، وكل هذه التجاعيد. راقبتُ صعوده، وراقبته من نافذة الميكروباص حتّى جلس على كرسي، وعادت الحياة المتوقفة. ثم دمعت عيني. أنا مشكلتي في الحياة ليست الوجود، لا يهمني الأسباب التي جئت من أجلها. أنا أخشى النهاية. لا أريد أن أكبر. لا أريد أن أصبح عجوزا. عدم تفكيري في أشياء محددة كالزواج، والعمل والأحفاد، والتي قلت عنها في التدوينة السابقة، ليس منشؤه عدم اهتمامي بها، ولا عدم توقعي لها؛ إنّه خوف منها. مارس عقلي الباطن ميكانيزم الدفاع بكفاءة، فلغى كل هذه الأفكار. قلتُ لخطيبي بعد الخطوبة بوضوح: "أنا مش عايزة أكبر، مش عايزة ألبس لبس الناس الكبار، وأتكلّم زيّهم .. أنا عايزة أفضل أتنطط، عايزة أفضل أعيش نمط طالب الجامعة للأبد". أخشى ذهاب نضارة الشباب، أخشى أن أصحو في يوم بألم في عظامي، ليس له سبب سوى الشيخوخة. أخشى أن أصاب بالضغط والسكّر وأمراض القلب، وأعتبره أمرا عاديًا في هذه السن. أخشى أن أموت. ليس حبًا في الحياة، وأنا أعنيها. ولكنّي أرتعب من العجز، وأرتعب من المجهول. لا أقول أنني إذا احتفظتُ بشبابي سأمارس حياة الشباب. أقول فقط، أنني لا أريد أن يشيخ جسدي فيعجزني. لا أستطيع التصالح مع فكرة أن هناك أشياء لا يمكنني القيام بها لأن سنّي لا يسمح. قفز إلى ذهني مباشرة نموذج جلال في الحرافيش، فارتعشت، وانتفض جسمي انتفاضة مخيفة بتذكّر المئذنة. قلتُ أن قسوة وجودي أنّه سينتهي. وقلتُ أن من قسوته عدم وجود طريقة لايقاف الزمن. وأدركتُ أن اكتئابي وخوفي من التغييرات المتوقعة لحياتي في الفترة القادمة ليس سببهما الخوف من هذه الأشياء في ذاتها؛ ولكن خوفي من كون هذه التغييرات تجعلني أكبر. تجعل نمط حياتي أكثر استقرارا، نمط الكبار وليس الشباب الذين يقفزون بين كل الحالات بلا خوف. ثم فكرّت أن من المؤسي أن هذه فكرة "كبيرة". هذه من أفكار كبار السن، لأن الشباب على العكس يعيشون بدون التفكير في هذه التفاصيل بهذه الهيستيريا. الشباب يرتبط بالانطلاق، بالآفاق المفتوحة، بالرغبة في تجربة كل شيء. وهم لا يبدأون في التفكير في انتهاء الحياة إلا عندما يحققون ما يريدونه منها. هذا الرعب الهيستيري من الموت ليس ملائما. وإمكانية بناء مئذنة تخلدني مستحيلة. والخلود في الأبناء، في الإبداع، في السيرة الطيبة أشياء ليست ذات معنى واضح لي. أنا أنانية جدّا في هذا الشأن. أريده لنفسي، ولا يهمني أي مما يحدث بعد موتي. أريد على الأقل أن أعرف أين سأذهب. "المغرور ببقاء النسور" لقمان، عاش أعمارًا سبعة، فملّ. وعندما وصل للحياة السابعة كان أدرك حتميّة الموت، كان زهد الحياة، فأنهاها بنفسه. وأنا لا أريد عمرًا طويلا، أريد عمرا نضرًا. وأعرف جيدّا أنني كنتُ أعني تماما ما أقوله بـ "هنتحر قبل ما أعجّز". ستكون اشكاليتي الوجودية هذه الفترة أن أتصالح مع الموت، إذ يبدو لي التصالح مع الهرم مستحيلا. سأتصالح مع الموت وأنتحر بمجرد اقترابه.

ملحوظة جانبية: العلاقة الجدليّة بين رباعيات صلاح جاهين، وانتحاره، وسعاد حسني، وانعزالها ثم موتها المريب، من الأشياء التي يجب تجنبها تماما، أو الانغماس فيها بشدّة؛ لن يمكن أبدًا التعامل معها بحيادية، ولا الوقوف على مسافة منها.

Friday, June 22, 2012

الموسمُ الأخيرُ للسأم

أذكُر المرّة الأولى التي نزلتُ فيها للبحر.شعرتُ بالشغف. الرائحة، الصوت، الإحساس، التجربة الطازجة. سعدتُ بـ "خفتي". غافلتُ أهلي، وتخطيتُ الحاجز الذي رسموه لي. سرتُ قليلا، ثم زلّت قدمي على رمال منخفضة. لم أقع، فانتعشت. قلتُ خطوتان أخريان، ثم سأجرب أن أغمس رأسي في الماء وأعد. عندما وضعت رأسي تحت الماء، أغمضتُ عيني، وسددتُ أنفي، وبدأت العد. سرت خطوتين أخريين، فزلّت قدمي في رمال أخرى. وقعت هذه المرّة، وكان الموت قريبا. جذبتني يد طفلة في مثل عمري، ونظرت لي بقلق. قلتُ لها أنني كنت ألعب. أنني لم أكن على وشك الموت. أن كل شيء رائع. ثم جريتُ من أمامها.
الآن، وأنا أتذكّر هذه التجربة، أعي أنني كنت أعرف طوال الوقت أن الموت قريب. أنني انشغلتُ بشغف التجربة، ولكنني نسيت أشياء فذهبت مني للأبد. أنني على جرأتي هذه، لم أفكر يوما في تعلّم السباحة. تركتُ نفسي للموج، وللرمال المنخفضة. وسمحتُ في كل مرّة ليد ما أن تنتشلني. يد لا أعرفها، أجري من أمامها في رعب.

لم أطبّق أبدا نظريّة "كل الأشياء السيئة تحدث للجميع عدا أنا". كنتُ أعرف أنني ببساطة يمكنني أن أصبح مدمنة، ببساطة قد تصدمني سيّارة، ببساطة قد أرسب في امتحانٍ ما. ولكنّي لم أهتم. كان يقين ما يملؤني، ويدفعني للمواصلة. يقين أن هناك أشياء لم أرها، أن العالم يفتح ذراعيه لي، أن براح الكون لن يسع براح قلبي وعقلي.
لم أتخيل أبدا أن شيئا لن يحدث لي ..

ولكنّ برغم هذا اليقين الذي كان، هناك أشياء لم أتخيّل أبدا أن تحدث لي. مثلا، لم أتخيلني أبدا عجوزا، لديها أحفاد تربيهم وسعيدة في حياتها. لم أتخيلني متزوجة أصلا. لم أتخيلني أعمل في وظيفة بمواعيد وأمارس حياة روتينية. لم أتخيّل أن أحدًا من أفراد عائلتي سيموت.  هناك أشياء لن تحدث .. ولكنّ مؤخرا، ظهرت لي صورة تأتيني كثيرا في أحلام اليقظة والمنام. تخلط بين المتوقّع والمرجو. لا أنكر أن فيها رغبة. أراني منزوية، في أركان بيتٍ ما. بإضاءة خافتة. ووحيدة. أجلس مقرفصة على كرسي متطرّف، وفي يدي زجاجة فودكا، وأمامي علبة سجائر. أشرب وأدخن، ولا أتكلّم. سيأتي الشخص الأقرب إليّ، سينزعج، سيشعر بالعجز، ويرغب في مساعدتي، ولكن لن يستطيع. سيحاول احتضاني، ولكنّي سأذوي بين يديه. تبدو الصورة أقرب إليّ يوما عن يوم.

الجرح الذي جرحته لنفسي منذ يومين، بدأ يلتئم، ولم يعد يؤلمني. الألم البسيط الذي كان يشغلني التفكير فيه طول الوقت عن التركيز في كل شيء، ذهب؛ فعادت التفاصيل الكثيرة تزعجني. واليوم فقط، عاد السأم. سئمتُ كل شيء. سئمتُ التفاصيل المزعجة، سئمتُ البشرَ، سئمت الأسئلة. سئمتُ الموسيقى والكتب والأفلام. لم أعد أريد فعل شيء. سئمتُ المناهج المتخلفة، الحفظ الذي هو سمة كل شيء، النظام التعليمي الذي يقتل أي رغبة في التعلم الحقيقي. سئمتُ الزملاء، وسئمتُ الأصدقاء، وسئمتُ البشر العابرين في الشوارع. سئمتُ الطرق المزدحمة، والضوضاء التي لا تنقطع، أغاني الميكروباصات التي تمنعني من اختيار ما أرغب في سماعه، أضواء المحلات المؤذية، أعداد البشر التي لا تُحتمل، والبشر الذين يقتحمون حياتي بدون إذن. سئمتُ جسدي الذي لا أستطيع تحريره دون أن يتطفل عليه أحد. سئمت كُرهي له، وكرهي لنفسي، وسئمت الأعين التي تحاول اثبات العكس. سئمتُ الرجال، والأفكار الذكورية، سئمتُ المتحرشين، والمتحرش بهم، سئمت النقد والتعليق. سئمتُ الغباء والعقول التي لا تريد التفكير. سئمتُ الأديان، والآلهة، والمؤمنين بهم. سئمتُ رغبات الجميع في فرض نمط يرتضونه عليّ. سئمتُ عقلي، الذي يوهمني طوال الوقت أنّه يعرف، ثم يصدمني فجأة بأنني لا أعرف أي شيء. سئمتُ تكرار نفس الشوارع، نفس البشر، نفس الكلام، نفس كل شيء. سئمتُ المشاكل المُدركة حلولها، ولكنّها مستحيلة. وسئمتُ عدم قدرة العابرين على تقبلي. سئمتُ الأموال، وذل الحاجة إليها، وهوان طلبها. سئمتُ عبث الوجود في ذاته، عبث ألا تصب حياتي كلّها في هدف نهائي. سئمتُ الثورة والسلطة والسياسة والمظاهرات والبيانات والتكذيبات والجنسيات وجوازات السفر وتصريحات الإقامة. سئمتُ ايمان الناس بأشياء لا تستحق. سئمت الوطن، والعائلة. سئمتُ العالم بأكمله. سئمتُ القراءة، سئمتُ حتّى الكتابة. لا جديد تحت الشمس. وسئمتُ الأسئلة التي لا إجابة لها.

أفتقدُ أياما، كان قلبي فيها مؤمنا، وعقلي مصدقّا.

حلمتُ أنني طائر صغير، وضعته أمّي في قفص صغير، ليس له باب. أدخلتني من بين عواميده. ثم تشاجرتُ معها، فرحلتْ. كان بإمكاني أن أخرج مثلما دخلت، ولكنّي انتظرتُ. كبرتُ فجأة. ولم يعد باستطاعتي الخروج من بين الفتحات، وجسدي العجوز لن يحتمل دماء جراح جديدة. لقد صرتُ "ثقيلة" جدّا. هل أنا المسؤولة، أم أمّي؟

يبدو أنني جلستُ في قفصي وحيدة أكثر مما ينبغي، فوضعتُ نظريات كثيرة عن الطيران، ولم أنفذه مرّة واحدة. وفي أعقاب هذه الجلسة، شعرتُ بالملل. سئمتُ كل النظريات التّي لا تجعلني أتحرك قيد أنملة عن وضعي الحبيس، النظريات التي تزيد من قسوة الحبس. وتزيد الملل. 

أريد أن أتحرر من هذا العالم، حقّا وبصدق هذه المرّة. أريد أن أتحرر منه مرّة واحدة وللأبد. ولكنّي أفتقد جرأة من لم يجرّب التحليق أبدا. لذا سأكتفي بأن أحقق صورتي المتخيلة عن نفسي. أن أنزوي في أحد أركان حجرة، أشرب، وأدخن، وأفكر في عبث الحياة وقسوتها، فيما يحاول حبيبي احتضاني، فيفشل.

Tuesday, June 19, 2012

بحث عن نقطة تنوير


عالجتُ ألم صدري من السجائر، بالمزيد من الدخان. جربتُ الشيشة بأنواعها، والحشيش. وكلما آلمني صدري أكثر، بحثتُ عن نوع أثقل من الدخان. كلما اكتئبتُ، بحثتُ عن أسباب أكثر للاكتئاب. من داخل كل مرحلة للاكتئاب، أفكّر بتجرّد: أنا أريد أن أتخلص من هذا الألم؛ ليكن بالمزيد منه. يذهب ألم المرحلة، وأغضُ النظر عن أنني استبدلته بمرحلة أعلى منه. عموما، الحياة هي تراكم الآلام، حتّى المرحلة التي يُصبح فيها الألم غير محتمل. عندها، سأموت، أو أتحرر. والكآبة ليست بالضرورة مسببة، الكآبة غربة وغرابة. الكآبة أرق وعدم قدرة على التصالح. الكآبة في أصلها غير مسببة. الأسباب تُدرَك، ويمكن معالجتها. الكآبة لا. الكآبة أصيلة. والحُزن كلمة لطيفة، أصيغ بها الكآبة في صورة أهدأ لأحبّها. الكآبة ترقد بعيدا، في طبقة غير متناولة من الروح. قد تمتد السعادة لآخر طبقة قبلها، ولكنّها تظل هناك، لا يمكن النفاذ إليها. قد نتصالح بقدر ما يتاح لنا التصالح، قد نبحث عن الخلاص. ولكن هناك بعيدًا، تراقب الكآبة ساخرة كل محاولات الخروج من العتمة. وتزيدها. وكلما حلقتُ بعيدا عنها، شدتني بالخيط الذي تملك طرفا منه، وطرفه الآخر مربوط في رقبتي. كلما طرتُ، أرخت لي الخيط، حتّى إذا ظننته الخلاص، وأوهمتُ نفسي أن الخيط هذه المرّة انقطع بالضرورة، تجذب جذبة واحدة، فأقع محطمة. وأبدأ من جديد. وقدرتي على البدء من جديد، أستخدمها، ويستخدمونها أحيانا، في الاقناع بوهم القوة. ليست قوّة؛ عبث. أنا هنا، وليس من بديل. تشد الخيط بنص، بفكرة، بجملة، بنظرة. هل سأعزل نفسي عن العالم لأتحرر منها؟ هل سيكون هذا تحررا؟ صرتُ أستخدم علامات الاستفهام بدلا من النقط. وعلامة الاستفهام قويّة وجبارة؛ لا توحي بما توحي به النقطة من الاكتمال، علامة الاستفهام لا يمكن اتباعها بنقطة. ستظل علامة استفهام، وسيظل لزاما عليّ أن أبتدأ جملة جديدة بعدها على عدم اقتناعي بانتهاء الجملة الأولى. تُغريك بالنقطة تحتها، فتنسى استدارتها، والخيط الذي تمدّه نحو هذه النقطة. علامة الاستفهام قادرة على ابتلاع النقطة في أي لحظة. علامة التعجب على عكسها، مبهجة، مبهرة؛ والعالم ليس مبهرًا، العالم ممل وموحش. حتّى وإن كانت لا توحي أيضا بانتهاء الجملة؛ إلا أنّك تعرف أبعادها، وترى حدودها جيدّا، ليس منها خطر. علامة التعجب ستثيرك. وتحاول أن تثبت لك أن في العالم ما يستحق الانبهار. وعلامة الاستفهام ستبتلع هذا التعجب عاجلا أم آجلا. لا أذكر آخر مرّة استخدمتُ فيها علامة تعجب عن قناعة. ربما لضرورات كتابية، ولكنّي لا أستطيعها. أما انحناءات علامات الاستفهام المراوغة، فستظل هناك، مع الكآبة ترقد بعيدا. كلما تعلقت في آخر علامة التعجب، شدتني إليها. في الصباح، جرحتُ يدي بالموس، وفيما كنتُ أرقبُ الدم الذي كلما مسحته، يعود من جديد، وأوهم نفسي أنني جُرحتُ بالصدفة وليس عمدًا، قررتُ أن أغيّر إجابة "إزيّك؟" وأجعلها "أحسن ما يمكن" بدلا من "كويسّة". إذ أن الحقيقة تقول أن هذه هي أفضل حال، ولكنّها ليست السعادة في مطلقها، ولا داعي للايهام في سؤل بهذه الأهميّة. الوهم. الوهم. والعجز غير المبرر عن الفهم. إن كنتُ هنا، وهذا واقع، لما يجب عليّ ألا أفهم؟ ألا يمكنني أن أكون هنا، وأفهم في ذات الوقت؟ البقاء. البقاء. والسعادة كلمة مبتذلة لم يعد لها معنى من كثرة الانهزامات. في نهاية كل محاولة، أجلس هناك وحيدة مع الكآبة، ينظر كل منا للآخر ولا يدري ماذا يفعل بالآخر. أدير وجهي، فيما أعرف أنّها موجودة، أعترفُ لنفسي مجددا بالعجز عن الرحيل، وأبدأ في البكاء.

Monday, June 18, 2012

الحب والقسوة، أم كلثوم والقصبجي مثالا.

في النهاية ياصديقي، لن نستطيع لوم أم كلثوم لأنّها كانت قويّة. ولن نستطيع لوم القصبجي لأنّه أحبها. نحن في النهاية مجرّد قارئين لتاريخ حدث، ما قيمتنا الفعليّة من الحدث؟ وماذا تفيد أحكامنا الأخلاقية على الأموات؟ لقد اختار كلُّ منهم، بوعي أو بدون، الطريقة التي يُريد أن يعيش بها. وعاش بها ثم مات. أم كلثوم اختارت أن تكون الأقوى، اختارت أن يكون لقلبها قوّة صوتها. والقصبجي اختار أن يكون رقيقا، اختار أن يكون لقلبه رهافة ألحانه. ونحن؟ نحن اخترنا أن نسمعهم. واخترنا أن نحكي الحكاية لكل من نعرفهم كلما جاءت السيرة. اخترنا أن نلوم أم كلثوم، لأن أحدًا لن يستطيع أن يتحمل لوم القصبجي. أنا اخترتُ أن تكون ام كلثوم عدوتي التي أعشقها. اخترتُ أن تقتلني أغانيها وتحييني في كل مرّة. واخترتُ أن أحب القصبجي حبًا غير مشروط. واخترتُ أن تكون "ما دام تحب بتنكر ليه" أغنيتي المفضلة على الإطلاق. وكلها اختيارات عبثية كما ترى؛ لن تغير مما حدث أي شيء. فلا لومنا لأم كلثوم سيرقق قلبها على هذا المرهف، ولا لومنا للقصبجي سيثنيه عن رفض هذا الذل. لقد أحب القصبجي أم كلثوم، وكان لأم كلثوم من القوة والجبروت ما يجعلها ترفض هذا الحُب الخالص. وكان لها من القدرة على التجاهل أن تعتبر كل هذا لم يكن. عاقبته على إخلاله بحبه الذي رفضته، فقبل هو بالعقاب. مالنا نحن وكل هذا؟ لماذا لا أستطيع التركيز في الأغنية الجميلة وانتهى؟ ولماذا أشعر بكل هذا الأسى ناحية القصبجي، وكل هذه الكراهية ناحية أم كلثوم؟

Saturday, June 16, 2012

والحُزنُ أبقى

كلما تجاهلتُ الجراح، صار طريق الشفاء منها أكثر وعورة. تعوُّدُ الألم يجعله أكثر إهانة. الحُزن أصفى. الحزنُ أرقى. الحُزن أهدى. وأهدى منها الهدوء، ومنها الهداية. الغضب مقابل الحزن. الحزن من الوحدة؛ أنين الزاي لا يستطيعه المتألمُ إلا وحيدًا. الغضب علاقة ثورية تستلزم أطرافًا. 
كلما تجاهلتُ النصال، واعتدتُ الألم، زاد عُمق الجرح. الوحدة مُدرَكة، الوحدة مُدرِكة. والاهتمام ليس مقابلا للتجاهل؛ ولكن للرؤية. أن أرى >> ألا أتجاهل. أن أهتم >> ألا أبالي. النصال المتزايدة تُزيدُ الثقوب، والثقوب تزيد الحسرة. والحسرةُ مصدرها العجز. 
وأنا حزينة ووحيدة. أداوي الحُزن بالغضب؛ فأبتذله. وأداوي الوحدة باللامبالاة؛ فأملُّ. وأكتبُ كيلا أموت. أكتب سعيا للاحتواء .. أكتبُ سعيًا للاستمرار.

Sunday, June 3, 2012

فوران القهوة

إلى دينا صبري

ما احناش قد البعد، لكن عليه مغصوبين. إنما الجراح هي اللي مش قدنا. بلاط الحسين بيفرّح، والكشري بيضحّك. تفاصيل إبراهيم أصلان كانت بتشاور ع الجاي. وبراد الشاي بيطرّي في الصيف، ويدفي في السقعة. كان تصوير، وكنّا بنشوي، وكانت بهجة. الود موصول ما دامت الذكريات. وهزة القلب اللي بيكِ اتثبتت مش مستنية سماعة باردة تحكيها. الحوجة مش دافع، لكن يمكن الحلويات تكون. والأخضر في عيوني يوم ما الحب اتأكد، ما بيّنهوش غير أخضرك فوقيها. غنانا هيكمّل دايما، وجملنا المبتورة هيفضل ليها معنى. يشهد عليها أسانسير حزب في عمارة، وكاكاو على قهوة كان طعمه وحش، وكبدة من على عربية متطرفة. كتابة على ضهر باب ما  يفهمهاش غيرنا، وحاجات في الروح متخزنالك، مستنيّة طلتك عشان تنكتب. اعترافاتنا بحزن مدشدش العضم، بترممه وتحييه. القلب يستحمل أسيّة، بس ما يستحملشي القلب. والروح معاكِ بتلضم المنسي باللي لسّه ما جاش. كانت فرحة، وهتدوم، وكان رجا في اليقين، لسّه ما اتعورشي.

Friday, June 1, 2012

عن شادية وأم كلثوم وآخرين

سعاد حسني ستكون صديقتي التي ألقاها وسط تجمعات كبيرة من الأصدقاء، وتضحك حتّى نكاد من فرط البهجة نطير. وسألقاها وحدها على فترات بعيدة، صدفة غالبا، لنشكو قسوة العالم. صباح ستكون الشخصية التي أعرفها من بعيد، نسلّم سلاما متحفظا إذا وضعتنا الظروف معًا. سأسمع أغانيها بتحفظ مماثل، وسيشعرني وجودها دائما بعدم أريحية. سأحب أغان كثيرة لها، ولكن لن أجاهر بهذا الحب أبدا كما سأفعل مع أغاني سعاد حسني، التي سأستخدمها معظم الوقت لأقول أنني لا أغير منها، وأنني شخص سعيد ورائع، وأن الحياة مكان جميل. سأكره عبد الحليم حافظ حتّى الموت، وسأتجنب الحديث عنه معظم الوقت، وسأتجنب الأماكن التي يذهب إليها. ولن أسمع أغانيه إلا مضطرّة، وسأنكر بشدّة أن تكون إحداها تعجبني، حتّى لو حدث. سأتحدث عن عبد الوهاب بإكبار، وسألتزم الأدب والصمت في حضوره. سأقبل يد القصبجي كلما رأيته، وسأحاول أن أتقرب منه. سأزوره في بيته كثيرا، وسآخذ له الشوكولاتة وزجاجات الآي دي بطعم البطيخ وسيديهات لأغاني لينا شماميان، فيروز كراوية، وأوكا وأورتيجا.  قد أحب محمد فوزي، ولكنّي سأتجاوز حبّه سريعا، وسنظل أصدقاء أوفياء. وسنلتقي بانتظام ولكن على فترات متباعدة. سأحضر جميع حفلات محمد عبد المطلب، وسأجلس في الصف الأوّل أراقب تعبيرات وجهه. أما سيّد مكاوي، فسأكون عضو دائم في شلة هو مركزها، تجتمع يوميا. سأغني معهم وأشرب وأضحك، ولكنّي إذا اكتئبت، سأتغيّب، ولن أرد على مكالماته. ليلى مراد ستكون صديقة محببة، لا أكره وجودها، ولكنّي لا أبحث عنه. وجودها سيسعدني، وسأحب تسريحة شعرها، وضحكتها. وسأطلب منها في كل مرّة أن تغني لي شيئا. وسأغني معها، وهي لأنّها ستحب غنائي، سترحب بمشاركتي، وستترك لي كوبليهات كاملة أغنيها وحدي. أما صديقتي المقربة ستكون شادية. سيقول الناس عننا دائما أننا متطابقتان. شادية ستكون رفيقتي الدائمة في كل المغامرات المتخلفة التي سنقوم بها. مثلا، سنذهب سرّا إلى فرح شعبي في أدغال امبابة على أننا راقصتان. مثلا، سنكون أنا وهي فقط الذين نعرف بأمر البار الحقير، الذي سنشرب فيه حتّى تمام السُكر، وسنبحث عن أي رجل يقلنا إلى البيت، في محاولة لتمثيل قصّة فيلم رخيص على أرض الواقع، ثم سنموت من الضحك حين نتذكر في الصباح. سنعيش سويّا، وسنضحك على كل شيء، ولكننا سنعرف جيدّا ما هو الحزن. سيكون حزنُنا موتًا، وفرحُنا جنونًا. سنقرر أن نتعرف على ولد وسيم أثناء السفر، وأن ندبّر مقلبًا محترمًا ضد فايزة أحمد لأنّها "واخداها جد زيادة عن اللزوم". ووحدها شادية ستعرف بشغفي بأم كلثوم. سيظن الجميع أن أم كلثوم عدوتي اللدود. وستكون فعلا. على الرغم من أنني سأعشق كل حرف تغنيه. وسأذهب إلى حفلاتها سرّا أنا وشادية متنكرتين، وسنجلس بعيدا عن دائرة نظرها. سأسمعها دون أن أنظر إلى وجهها. وسأكتفي بمراقبة القصبجي الجالس وراء أم كلثوم يعزف ألحان غيره. سأسب أم كلثوم في سرّي وفي علني. وسأعترف لشادية فقط أن أغانيها حلوة لدرجة غير محتملة. وسآتيها برواية كونديرا، ثم بعد أن تنهيها سأخبرها أن أم كلثوم ثقيلة ثقل غير محتمل، وأن القصبجي خفيف خفّة مؤلمة. ثم سننتبه أننا "قلبناها نكد"، فندير "أنا شارب تلاتة ستلا" وسنرقص حتّى نسقط  من التعب، نرتاح قليلا، ثم ننزل لنشيّش شيشة ليمون على نعناع في قهوة البورصة، في ركن مظلم بعيد، ونحن صامتتان تماما.