Tuesday, February 28, 2012

عن الخفّة والنسيان - تدوينة تجريبية

لسّه فاكر قلبي يديلك أمان؟
إطلاقًا. كنتُ في الكليّة. كانت محاضرة التاسعة صباحا ملغاة، وكنت أعلم من اليوم السابق؛ نمتُ وذهبتُ مباشرة إلى محاضرة الثانية عشرة. أي ساعات نوم إضافية، وتخففا من زحام الثامنة في شارع الهرم. كانت محاضرة لغويات ممتعة، وكان اليوم السابق ممتعًا؛ باختصار مخل: كنت سعيدة. قرب نهاية المحاضرة، انتبهتُ إلى البنت التي تجلس على الطرف الآخر. رأيتُ انعكاس وجهها في زجاج النافذة المواجه لها، وتألمت. البنت التي عرفناها في العام الماضي ممتلئة قليلا عن العادي، وذات وجه مبتسم متورّد، صارت هزيلة بعينين غائرتين ووجه أسود وصوت مكسور ومرض نادر يجبرها على غسيل الكلى. أتحاشاها جدّا مذ عادت للظهور؛ خوفًا من شفقة لا أحبها، وخوفًا من إحالة مخي الفورية إلى ابن خالي الذي ينتظر مصيرا مماثلا. ابتسمتُ لها ثم حاولت التركيز في المحاضرة، ففشلت. أخذت أرسم على المقعد خناجر متعددة الأحجام، ثم رسمتُ وجها افترضت أنّه الشيطان، وكتبت في ورقة صغيرة: "جت في بالي ابتسامة .. انتهت بعويل" ثم مزقتها. انتهت المحاضرة وسألتني زميلة عن النسيان، فقلتُ أنني أنسى بسرعة وأنني لا أرتبط بالأشياء والأشخاص لدرجة تجعلني أتألم عند فراقهم، وقلتُ أنني عند الملل "بمشي ببساطة". حسدتني، وعلقّت أنني هكذا أستمتع بحياتي، وأنا هززت رأسي موافقة؛ ولكنّي كنت أدرك داخلي أن هذا ليس سوى نوع من أنواع الخفّة التي لا يمكن احتمالها.

ولا نظرة توصل الشوق والحنان؟
قررتُ المشي إلى وسط البلد من الجامعة. أمام المركز الثقافي الروسي تذكرّت موقفا قديما. وكانت أغنية حديثة في الراديو لا أعرفها تتحدّث عن فقدان الذاكرة. فكرتُ أن فقدان الذاكرة ليس بالضرورة مريحا؛ هناك أشياء يجب تذكرّها. نوع من الحتميّة قد لا يكون محببا ولكنّه ضروري. أمام مبنى الشيراتون، توقف بجانبي ميكروباص لا يوجد به سوى كرسيّ واحد خال، فركبت. وعندما وصلتُ لصالح قررت أن أكمل قراءة كونديرا. قيل لي كثيرا أنني شخصية متقلبة المزاج بحدّة، ولكن ماذا أفعل أمام كونديرا؟ عندما وصلتُ لـ "لكنّ العالم كان من البشاعة بحيث إن ما من أحد كان يريد أن يُبعث من بين الأموات" فهمتُ تماما أن سعادة اليوم السابق ولّت، مؤقتا على الأقل..
التقيتُ صديقا محببا بالصدفة. حدثته عن حبي للشيطان، عن قسوة العالم غير المبررة، وعن تطوّر الجنس، وعن علاقتي القديمة الفاشلة. حدثني عن المثلية الجنسية وعن الكتابة والكتب التي اشتراها مؤخرا وعن علاقته القديمة الفاشلة. تركني ليقابل حبيبته. وتذكرتُ حين قلتُ لصديقتي أن العلاقات الخاطئة تترك آثارا لا يمكن معالجتها كلّها. قلتُ لنفسي أن العالم عبثي تماما وأن ذكرياتنا تلاحقنا مهما رغبنا في نسيانها. وقلتُ أن قسوة العالم ليست مبررة في ظل عبثيته، ولكنني استدركتُ لنفسي أن العبثية جزء أصيل من قسوة العالم أصلا. العالم قاسي لأنّه عبثي. وفكرّتُ أن هذه أيضا خفّة لا يمكن احتمالها.

كنت تسمعها نغم وأسمع صداه
على كرسي مجاور، جلست فتاة عاديّة لدرجة ملحوظة، مع رجل. كانت تعطيني ظهرها فيما أرى وجه الرجل كاملا. كنت أسمع شذرات كلام منها، ويبدو كلاما جادّا عن البلد والسياسة والثقافات والبشر. لا يمكنني الحكم على عقليتها أو ثقافتها من هذه الشذرات، ولكنّي لاحظت شهوة أعرفها جيدّا في عينيّ الرجل. كنتُ متأكدّة أنّه لا يسمع تقريبا ما تقوله، وأنّه لا يعنيه كل هذه الثرثرة، كان يفكّر في شيء واحد فقط: كيف يمكنني أن أعتليها؟ شعرتُ بالتقزز وبالإهانة. قد يكون تخميني خاطئا في هذه الحالة، ولكنّ الحالة قائمة.
سعديّة في رواية "سعدية وعبد الحكم وآخرون" ترى الجنس شيئا مبالغ في تقديره، فيما يحاول كونديرا أن يقنعنا أن خيانات توماس الجنسية لا تنقص من حبه لتيريزا شيئا. أنا لا يهمني هذا أو ذاك، ولكنّ يهمني أن أتحرّك بحريّة تسمح لي أن أكون من أرغب في أن أكون في الوقت الذي أريده. بمعنى: إذا أردت إغواءك، فدعنا نتحدّث بمياعة عن أمور تافهة تنتهي بنا إلى طريق نعرفه، ولكنّ إذا كنّا جالسين على القهوة وأنا أحدثّك عن آرائي الفلسفية العظيمة في الحياة، لا تفكّر في شيء غير هذه الآراء الفلسفية العظيمة. من أكبر مشاكلي النفسية رغبتي الدائمة في تجربة عالم الرجل الذي لا يتاح لي. مثلا، المشي وحيدة في الثالثة فجرا، أو المبيت في الشارع، أو دخول غرزة في منطقة مهجورة. كانت إحدى حلولي الساذجة ألا أجعل لأحد فرصة ليفكّر في كوني بنت من عدمه. مثلا: الابتعاد عن الملابس الكاشفة، ترك حواجبي على سجيتها، التخلي عن الكحل، عن الضحكة الناعمة، ولكنّي بالتجربة اكتشفت عبثية الحل. سأظل "تاء مربوطة" مهما فعلت. فكرّت أن صحبة أصدقائي قد توفّر لي حماية أفعل معها بعض هذه الأشياء، ولكنّي عدتُ للتأكيد أن هذه لن تكون التجربة الخالصة.
على كراس أخرى جلست مجموعة أصدقاء. فيهم بنت غير جميلة إطلاقا، تضع ماكياجا مفتعلا، وترتدي ملابس مفتعلة، وتتحدّث بمياعة مفتعلة. تحاول جذب اهتمام واحد من الجالسين عن طريق التصرّف بتلقائية مفتعلة كذلك. تخبطه في كتفه، وتنظر له طويلا في عينيه، وتحاول أن تخبره كم أنّها عظيمة وأنّها لا يفرق معها كونه ولد من بنت، وأننا سواسية، ولكن طريقتها تقول أنّها لا ترى هذا إطلاقا. شعرتُ بالتقزز مرّة أخرى. وللحظة، دمعتُ عيناي. قلتُ أن قواعد هذا العالم غريبة. من فرض عليّ أن أكون أنثى فيما هو رجل، ومن فرض عليّ أن أكون الكائن المرغوب فيه طوال الوقت؟ ولماذا نُمنح الرغبة في فعل أشياء إن كان محكوما علينا بألا نستطيع؟ فكرّتُ أن هذه البنت المفتعلة قد وجدت طريقة تتصالح بها مع كونها الطرف الأقل، وأنّها تبدو سعيدة، وأنني ربما الوحيدة التي تفكّر في قسوة العالم أكثر مما يجب. وقلتُ في النهاية أن كون البشريّة بهذه السطحية ليس أيضا سوى خفّة لا يمكن احتمالها.

كلمة كلمة لمّا راح .. الهوى ويّا الجراح
ما الذي يجعلنا قادرين على البدء من جديد وتكرار ما فعلناه؟ "يقيننا" في أن هذه المرّة ستكون مختلفة، أننا سننجح في هذه المحاولة.
أي شرخ في جدار اليقين هذا يجعل أي محاولة للبدء من جديد مهزوزة وفاقدة للحماس الكافي لانجاحها إن كان هناك أمل حقيقي هذه المرّة.
تقلبات مزاجي الحادّة، مردودة لتقلبات حياتي الحادّة كذلك. من الأقصى للأقصى طوال الوقت. لا أعرف شيئا واحدا بدأته واقتنعتُ به واستمررت في فعله. وكل شيء دخلته وصلت لأقصاه ثم رحلت. وكل علاقة فاشلة تعاملت معها على أنّها العلاقة الأخيرة. كل فكرة اقتنعت بها دافعت عنها بحماس وأقنعت بها البعض، وغيرتها. وكل لحظة تنوير اعتبرتها الشمس التي أقول بعدها أنّها لم تكن سوى انعكاس لضوئها على صفحة مياه -تشبيه شاعري مبتذل، ولكن سأحتفظ به- وأن الشمس الحقيقية قادمة. الآن أقف في مرحلة من الإدراك والوعي بكل ما مضى تجعلني أتصرّف بفتور تجاه أي شيء. لا يعنيني أي شيء لهذه الدرجة. أتحدّث عن أفكاري وكأنّها أفكار عامّة لا تخصني. لا أتحمّس بشدّة لفعل شيء ما. وأقف على مسافة مزعجة من كل الأحاسيس الانفعالية. لا شيء يساوي قيمة عظمى لأنّه سيزول لاحقا، أنا نفسي ليس لي هذه القيمة لأنني سأموت وسأزول نهائيا. بالمناسبة، اليوم أدركتُ أنني أقتل كل أبطال قصصي في النهاية. لا معنى لأن نعيش بهذا الحماس، ولا أن نعتنق الأشياء لهذه المرحلة. الوطن والإنسانية والسياسة والأدب والعلاقات، كلّها أشياء مبالغ في تقديرها بشدّة. نحاول بها البحث عن معنى ما، معنى ليس موجودا إلا في أذهان المؤمنين والمبشرين بها. أنا أعيش حياة خفيفة لدرجة لا يمكن احتمالها. .

قولّي ايه قصدك معايا .. بعد ماعرفنا النهاية
متى سأستطيع تنحية قسوة العالم عن تفكيري؟ بدأت أستشعر ابتذال الكلمة، ولكنّها لا تزال تعني لي كل شيء. داروين، أيقونتي لهذه المرحلة، يقول: "من استطاع البقاء ليست أقوى الأنواع، ولا أكثرها ذكاءً؛ ولكن الأنواع الأكثر قدرة على التكيّف مع التغيير" وتأكيدًا لكلام داروين أذكّر نفسي أن السعادة ليست في ايجاد معنى ما لعبثية الحياة؛ السعادة هي أن أتصالح مع هذه العبثية.

وكخاتمة سخيفة لهذه التدوينة أقترح قراءة هذا الحلم.